في زمنٍ تُخاض فيه الحروب خلف الشاشات، وتُدفن القلوب تحت وطأة الضغوط، ما زال أخطر الأعداء ليس من يقف خارج أسوارك، بل من يشاركك سقفك، ويدخل معك ذات الباب، ويأكل من ذات المائدة. ليست المصيبة في أن نختلف، فذلك من طبيعة البشر، بل في أن يُصبح اختلافنا سلاحًا نشهره بوجه من نحب، أن تتحوّل روابط الدم إلى جراح نازفة لا تتوقف، وإلى خصومات تزرع في القلب قلقًا لا دواء له. نولد إخوة... لا خيار لنا، نبدأ كأرواحٍ بريئة تتقاسم اللعب والضحك، ثم تُنبت السنوات في دواخلنا تباينات، وتؤجج النزاعات الصغيرة التي تُهمَل حتى تنمو وتتحول إلى جدرانٍ من الصمت، أو نيرانٍ من العتاب، لا شيء يُنهك الإنسان كالصراع داخل عائلته، لا صداقات تعوّض دفء الأخ، ولا مالًا يغني عن أمان الأخت. في قلب كل أخت، حلمٌ بأن يكون لها أخ يسندها، يربّت على كتفها حين تضيق بها الدنيا، لا يُحاكمها إن أخطأت، ولا يُشهر بها إن زلّت، وفي قلب كل أخ، أمنية بأن يجد في أهله موطنًا للطمأنينة، لا ساحة يُدان فيها بسبب اختلافه أو خياراته أو حتى عثراته. أحيانًا، في كل بيت، يبرز صوتٌ عالٍ... أخ أو أخت اختار دور الخصم، لا يُرضيه شيء، ولا يُنصف أحدًا، يثير الزوابع، ويتصيّد الأخطاء، ويخلق المشكلات كأنها هواية، وقد يكون قاسيًا بلسانه، متعجرفًا بردوده، مؤذيًا بأفعاله، فكيف نتعامل مع هذا النوع من دون أن نخسر راحتنا؟ كيف نحمي سلامنا الداخلي من عدوانيته المستمرة دون أن نُصبح نحن أيضًا نسخة منه؟ الجواب لا يكمن في القطيعة المباشرة، بل في ترسيم حدود واضحة، فليس كل من يُشاركك الدم يستحق أن يُشاركك المساحة، تعامَل معه بقدر ما يحميك من الانفجار، وابتعد عنه دون ضوضاء، لا توجّه له العتاب إن كنت تعلم أنه لا يسمع إلا صوته، ولا تحاول كسب معركة الخلاف مع شخص يتغذى على الجدل، ضع مسافة كافية تُبقي على صلة الرحم، وتمنحك في الوقت نفسه حياة خالية من التوتر. وإن كان أذى القريب يتكرّر، ولم تجد فيه إلا القسوة والسخرية والتقليل، فاحمه بصمتك. ليس كل واجب أخوي يعني القرب اللصيق، البرّ ليس مسايرة المؤذي، بل في ألّا ترد السيئة بمثلها، وفي أن تحفظ كرامتك وسلامك من أن تُنتهك، من الحكمة أن تُدرك متى تفتح صدرك، ومتى تُغلق بابك. وحتى مع من ظننتهم "عاقين"، تذكّر أنك لا تعرف كل تفاصيل ما يحملونه، خلف العدوان أحيانًا خوف، وخلف الإساءة ضعف، وخلف القسوة ماضٍ لم يُداوَ بعد. لا تبرّر لهم، لكن لا تُقابلهم بنفس السلوك، تعامل بثبات، لا تُنزل نفسك إلى دروب الشتائم والصراخ، ولا تُحبط من محاولاتك إن لم تجد صدى. المحبة لا تعني أن تُذل، والرحمة لا تعني أن تُداس. وفي خضم كل ذلك، يبقى أجمل ما في الأخوة أن تكون أنت المختلف، أن تكون أنت من يكسر الدائرة، من يحنو على أخت أخطأت، من يحتضن أخًا جفاه الجميع، من يُبقي بابه مفتوحًا في زمن يُغلق الناس فيه أبوابهم حتى على أنفسهم، أن تكون الأخ الذي يُقال عنه: "لولاك لانطفأت أشياء كثيرة في قلبي"، أو الأخت التي تحوّلت إلى وطنٍ صغير يُلملم شتات من حوله. نحن لا نملك تغيير طباع الآخرين، لكننا نملك اختيار الطريقة التي نتعامل بها معهم، نملك أن نحفظ كرامتنا دون أن نُخاصم، ونملك أن نسامح دون أن نُسرف، وأن نحتوي دون أن نُهمل أنفسنا. الأخوة الحقيقية ليست في تبادل الأحاديث فقط، بل في أن تكون السند حين تتقاطع الدروب، في أن تقول لأختك –حتى في زلّتها– "لا تقلقي... سأبقى هنا، ولو أخطأتِ الدنيا كلها". وأن تقول لأخيك، مهما اشتد بينكما الخصام: "قلبي لك إن عدت، وظهري لك إن وقعت، وسكوتي عنك ليس ضعفًا، بل حكمة ألا أخسرك". البيت الذي لا يُرمم داخله أولًا... سيهدمه الخارج لاحقًا.