في شرقي المملكة العربية السعودية، حيث تنمو النخلة كما تنمو القصيدة، تبرز الأحساء شامخة، ليست مجرد مدينة، بل رمزًا للهوية التراثية، وكنزًا من كنوز الثقافة العربية، ووجهة آسرة في قلب الوطن. ليس من قبيل المصادفة أن تُعلَن الأحساء رسميًا "عاصمة للنخيل"، فهي تحتضن أكثر من ثلاثة ملايين نخلة تنبت من قلب الأرض، ترويها عيون لا تنضب، وتُنتج من التمر ما يتجاوز كونه غذاءً، ليغدو رمزًا للحياة والجذور والانتماء المتجذر. في الأحساء، النخلة ليست مجرد شجرة، بل ذاكرة حية ترمز للكرم والأصالة، وتُجسد تاريخ الأجداد بظلها وثمرها. من "الخلاص" إلى "الرزيز"، كل غصن هو امتداد لعائلة، وحكاية شعب وثيق الصلة بأرضه. ومن لا يعرف عين الجوهرية، أو عين الحارة، أو عين أم سبعة؟ تلك العيون الطبيعية التي شكّلت منذ قرون مصدرًا للحياة، وتحولت اليوم إلى ملاذٍ للباحثين عن الصفاء، وتجربة استثنائية للسباحة في مياه تنبع من أعماق الأرض. في الأحساء، تلتقي حرارة الرمال ببرودة الماء في مشهد نادر، ما يجعلها من أندر الوجهات الطبيعية في الخليج، بل في العالم. الأحساء ليست واحة خضراء وحسب، بل واحة تراث حيّ، تتدفّق بالحرف اليدوية التي لا يزال أهلها يمارسونها بحب وفخر؛ من الفخار إلى السدو، ومن الزجاج المنقوش إلى صناعة الدلال والمباخر، فهي لا تقدّم منتجًا فقط، بل تنقل جزءًا من روحها. وهذا التراث لا يقتصر على الحِرف، بل يمتد إلى المعمار والأسواق التاريخية، حيث يكتمل المشهد في سوق القيصرية العريق، وبين ممرات قصر إبراهيم وبيت البيعة، في تجربة تنقلك بين العصور دون أن تُغادر المكان. وإدراج الأحساء ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي لدى "اليونسكو" يُعدّ اعترافًا دوليًا بأن ما تملكه هذه الواحة يتجاوز حدود الجمال المحلي ليُصبح إرثًا عالميًا. أما اختيارها عاصمةً للسياحة العربية، فهو تأكيد على مكانتها كوجهة بارزة، تتجاوز كونها مجرد نقطة على الخارطة، لتُصبح محطة للزوار من الخليج والعالم العربي. من يزور الأحساء لا يرى مزارع وأسواقًا وقصورًا فقط، بل يعيش تجربة تعبّر عن روح عربية أصيلة، وذاكرة نابضة بالحياة. واليوم، يقود صاحب السمو الأمير سعود بن طلال بن بدر آل سعود مشروعًا تنمويًا متميزًا، ينطلق من احترام التاريخ، ويعتمد على التراث كمنصة لصياغة المستقبل. تتوالى المشاريع، وتتوسّع الطرق، وتتطوّر المرافق السياحية، وكل ذلك ضمن نهج يحافظ على هوية الأحساء، ويستثمر إرثها لتحقيق تنمية مستدامة وفق رؤية المملكة 2030. وفي عالمٍ تتسابق فيه المدن نحو الأبراج والحداثة، اختارت الأحساء أن تكون واحةً للإنسان والذاكرة والهوية؛ تنمو بثبات، وتبدع بهدوء، وتحافظ على روحها منفتحة على التطوير دون أن تفقد ذاتها. وهكذا تبقى الأحساء، كما كانت دائمًا: عاصمةً للنخيل، ووجهةً لكل من يرى في الأرض تاريخًا حيًا، وفي الماضي مصدر إلهامٍ للمستقبل. *الرئيس التنفيذي لمشروع صناعة السياحة ضمن رؤية السعودية 2030