في أيام الصيف الطويلة، حين يهدأ إيقاع صخب الحياة، وتُصبح القراءة رحلة داخلية بطيئة، عدتُ إلى مكتبتي أفتش عن كتابٍ لا يتباهى بثقله، بل يتقن الإصغاء إلى مزاجي المتأمل. كتاب يُقرأ في لحظة هدوء لا تستعجل شيئًا، لفتني عنوانٌ مألوف وجذاب في آن مذكرات ضابط سعودي: ليس للأدميرال من يكاتبه عنوانٌ فيه شجن المراسلة، ورائحة البحر، وهو مستلهم من غابرييل غارسيا ماركي في روايته الذائعة الصيت ليس لدى الكولونيل مَن يكاتبه مذكرات ضابط سعودي.. للعميد البحري عمرو العامري، هو عمل استثنائي يتجاوز السيرة الذاتية التقليدية ليقدم لوحة إنسانية غنية بالصدق والتأمل. لا يقدم العامري سيرةً مكررة لضابط عسكري، بل يحفر في عمق التجربة الإنسانية: طفولة مليئة بالمرض والفقر في قرية القمري بجازان كفاح للتعليم، ثم رحلة التحول من طفل ضعيف الجسد إلى ضابط بحري يجوب العالم، كتب العامري اعترافاته دون أكاذيب مثالية متجاوزًا تلميع الذات ليظهر ضعفه وأحلامه وخيباته، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يقرأ روايةً لا سيرة؛ تمتاز السيرة بأسلوب يجمع بين السلاسة والعاطفة، وقد وصفه بعض النقاد بأنه ممتع لا يُورث الملل، بل يدفع القارئ لإكمال الصفحات كما لو كانت مشاهد روائية. للمرأة في سيرته حضورٌ دافئ ومختلف؛ حيث يكرس العامري جزءًا كبيرًا من الكتاب للحديث عن النساء في حياته: أمه التي تركت فراغًا في قلبه، وزوجته وفاء التي يصفها بالوطن والسند ويكشف عن تقصيره في حقها أحيانًا بصراحة نادرة. وهي أول سعودية تُعلُق رتبة زوجها العسكرية على كتفه؛ وهي لقطة رمزية تظهر تقديره لدورها؛ كأنها تعيد تثبيت قلبه في مكانه بعد كل رحلة متعبة. لا يركز الكتاب على الإنجازات العسكرية بقدر ما يتعمق في الأسئلة الوجودية التي يواجهها الضابط خلال رحلاته الطويلة في البحر، حيث يصبح البحر مساحةً للتأمل والوحدة. ويكتب عن الخوف من الموت في الحوادث، ليتحول السرد إلى تأمل في الحياة والزمن. كما يتميز العامري بجرأته في كشف الجوانب الشخصية المحرجة، مثل فشل زواجه الأول، أو مشاعره تجاه الغربة والانتماء. تقودنا هذه السيرة لتأمل أوسع في الأدب العالمي، نادرًا ما تتحول المهن العادية إلى استعارات كونية تعبّر عن شرط الإنسان الوجودي. وهذا بالضبط ما فعله إرنست همنغواي في روايته الشيخ والبحر (1952) عبر شخصية الصياد الكوبي سانتياغو، يشبه العامري سانتياغو في صراعه مع الوحدة، لكن مع فارق جوهري: فبينما كان بطل الرواية الكوبي يواجه الطبيعة، يواجه الضابط ذكرياته وهواجس الانتماء. عاد سانتياغو بعظام السمكة لا بلحمها، لكنه عاد منتصر الكرامة. أما العامري، فيعترف بأن أعظم معاركه لم تكن في البحر، بل في غرفته، وهو يحارب الذكريات. كلاهما هزمته الوقائع، لكن نجا بالكتابة. لماذا قراءة هذه المذكرات مهمة؟ لأننا نادرًا ما نقرأ سيرةً لضابط سعودي بعد تقاعده، يحدثنا عن أفكاره وتأملاته، فهذه السيرة تكمن أهميتها في كسرها الصورة النمطية للضابط العسكري.. فهي سيرة مكتوبة من الداخل، لا بوصف الضابط نموذجًا مثاليًا، بل إنسانًا كامل التقلّبات فالكتاب لا يروّج للبطولة، بل يعيد تعريفها: أن تكتب عن ضعفك وأخطائك، وأن تعترف أن الانضباط لا يُلغي الألم، فهذا الكتاب ليس مجرد سيرة، بل بوصلة لذاتٍ تبحر في العمق ، رسالة كتبها ضابط شجاع، لا ليؤرشف بطولته، بل ليكشف هشاشته بصدق نادر وكلمات لا تزيّف الواقع.