في الخامس والعشرين من مايو احتفل مجلس التعاون لدول الخليج العربية بمرور 44 عامًا على تأسيسه ككيان لم يؤسس من ردات فعل بل من وعي عميق بأن شعوب الخليج ليست جيرانًا متقاربين فحسب بل جسدًا واحدًا متصلًا بالتاريخ، والدين والثقافة والمصير. منذ 1981 رسّخ المجلس مشروعه كمنظومة تكاملية تتجاوز الجغرافيا لتلامس الإنسان في تفاصيل يومه ولم تكن وحدة الخليج قرارًا سياسيًا بل امتدادًا لما كان قائمًا في الوجدان الشعبي قبل أن يُصاغ في مؤسسات وسياسات. وقد أثبتت العقود الماضية أن هذه الوحدة لا تتجلى فقط في المشروعات الاقتصادية والتكامل الإداري بل تظهر في لحظات التهديد والاختبار ومؤخرًا في يونيو 2025 كشفت الاعتداءات الإيرانية على قاعدة العديد الجوية في قطر عن عمق الترابط الاستراتيجي بين دول المجلس والدور القيادي الحاسم للمملكة العربية السعودية فبعد ساعات من الهجوم أصدرت الرياض بيانًا حازمًا تضامنت فيه مع الدوحة مؤكدة أن أمنها جزء لا يتجزأ من أمن المملكة والمنطقة بأسرها، كما دعت إلى اجتماع خليجي طارئ لمناقشة تداعيات الاعتداء وضمان الرد الموحد وهو ما أفضى إلى إجماع سياسي شامل من دول المجلس على رفض أي تهديد يمسّ أحد الأعضاء. لم يكن هذا الموقف استثناءً بل امتدادًا لنهج سعودي راسخ في تثبيت أركان البيت الخليجي والدفاع عن استقلاله واستقراره فالمملكة -بقيادتها ونفوذها الإقليمي- لم تكتفِ بالدعم اللفظي بل قادت تحركًا دبلوماسيًا فعّالًا بالتنسيق مع شركاء دوليين لتحصين أمن المنطقة ومنع تكرار مثل هذه الاعتداءات. ولا تنفصل هذه الوقفة عن سجل مشترك من التكافل من الدعم الخليجي لعُمان عقب إعصار شاهين إلى التنسيق النموذجي في مواجهة جائحة كوفيد - 19 ويتضح أن دول الخليج لا تتعامل بمنطق الدولة الفرد بل بروح الكيان الواحد. ويستمد هذا الانسجام الخليجي عمقه من تشابه ثقافي واجتماعي متجذر حيث صنعت اللهجات المتقاربة والعادات المشتركة وتداخل الهويات مواطَنة خليجية لا تعترف بالحدود السياسية بقدر ما تستشعر الانتماء الواحد، ويكفي أن ينتقل الطالب من الرياض إلى الكويت أو التاجر من أبوظبي إلى المنامة دون أن يشعر بفارق في اللغة أو الوجدان أو التعامل ليدرك أن المشروع الخليجي يتجاوز كونه اتفاقًا سياسيًا إلى كونه حالة شعورية راسخة، فنجاح المجلس لا يُقاس فقط بالمؤشرات الاقتصادية أو بالربط المؤسسي بل بما يولّده من شعور بالتكافل فحين يُفتح مستشفى في دولة ويُعالج فيه مواطنو أخرى أو حين تستوعب جامعة خليجية طلابًا من مختلف دول المجلس أو حين تهبّ شعوب الخليج معًا في مواجهة كارثة طبيعية أو أزمة سياسية في مثل هذه اللحظات تتجلى حقيقة أن ما يجمع الخليجيين ليس المصالح فقط بل هوية واحدة تُبنى على الوعي والمصير المشترك. اقتصاديًا يواصل المجلس تعزيز وحدته من خلال الاتحاد الجمركي ومشروعات الربط الكهربائي وسكة الحديد الخليجية إضافة إلى التنسيق في الأمن السيبراني ومكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الأمنية. كما يمتد التعاون إلى مجالات التعليم والصحة والابتكار من خلال مبادرات مثل "الهوية الخليجية الرقمية" وتبادل البيانات الطبية وتوحيد معايير الاعتماد الأكاديمي وتشجيع ريادة الأعمال بين الشباب الخليجي. إن ما حدث مؤخرًا لم يكن اختبارًا للوحدة بل دليل على رسوخها والمملكة بموقفها المبكر والحازم لم تعبّر فقط عن تضامن بل جسّدت قيادة خليجية تستبق الأزمات بالرؤية والمسؤولية. ولأن المملكة تنطلق من مبادئها الإسلامية والإنسانية فإن موقفها الحازم ضد الاعتداءات لا يتنافى مع حرصها على استقرار المنطقة وسعيها للحوار مع إيران باعتبارها دولة جوار مسلمة، وقد أكدت الرياض مرارًا أن الخلافات تُحل بالدبلوماسية والاحترام المتبادل ضمن نهجها الثابت في تغليب الحكمة وحماية أمن الإقليم.