في لحظة عابرة من صيفٍ لم يكن كغيره، وقفت على شرفة مطلّة على وادي السودة، أتأمل ما حولي وأنا أحاول استيعاب التغيّر الهائل الذي شهده هذا الوطن خلال سنوات قليلة فقط. كانت نسمات المساء تداعب وجهي، والضباب يلف الجبل كأن الطبيعة تحتفل بجمالها. شيءٌ ما في الداخل همس لي أن هذا الجمال لم يعد مختبئًا، ولم يعد منسيًا في كتب الجغرافيا أو صور العطلات القديمة، بل صار حاضرًا، قويًا، واضحًا... تمامًا كما أراده سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - حين قال: "نحن لا نريد العيش في الماضي بل نتطلع إلى المستقبل." نحن نشهد اليوم تحولًا غير مسبوق في مفهوم السياحة داخل المملكة. لم تعد السياحة مجرد متنفس للترفيه، بل أصبحت صناعة متكاملة، أحد روافد الاقتصاد الوطني، وجسرًا يصل بين المواطن وبلده، وبين العالم وثقافتنا. المملكة فتحت أبوابها للعالم من خلال تأشيرات إلكترونية ميسّرة، ومبادرات سياحية مرنة، ومشاريع ضخمة تتخطى حدود التوقع. فمن نيوم ذات الرؤية المستقبلية، إلى البحر الأحمر الذي أعاد تعريف السياحة الساحلية، ومن العلا التي تحكي آلاف السنين من التاريخ، إلى القدية التي تعد بمرحٍ وترفيهٍ غير مسبوق، كلها دلائل واضحة على أن رؤية 2030 لم تكن حبرًا على ورق، بل مشروعًا وطنيًا ضخمًا، أعاد توجيه البوصلة، وحرّك عجلة السياحة نحو الأمام بثقة وجرأة. لكن ما يجعل هذا التحوّل أكثر تأثيرًا، ليس فقط ما نراه من بنى تحتية ومنشآت، بل ما نشعر به من انتماء ودهشة عندما نزور مناطقنا بأنفسنا. اليوم، كثير من العائلات السعودية لم تعد تُخطط لعطلتها خارج الحدود، بل تبحث عن مدن مثل أبها، الطائف، الباحة، العلا، أملج، العيدابي، رجال ألمع، السودة، بللحمر، تبوك، وخليج نيوم. أصبحنا ننتقل من مدينة لأخرى داخل المملكة لنكتشف وطنًا كأننا نراه للمرة الأولى. وفي هذا السياق، تبرز منطقة عسير، وبخاصة مدينة أبها، كنموذج حي على نجاح الرؤية في ترجمة الجمال الطبيعي إلى تجربة سياحية راقية. فهناك، في السودة، تجد أعلى قمة في المملكة، وفي رجال ألمع تقف أمام قرية صُنفت عالميًا كواحدة من أجمل القرى، وفي الحبلة تقرأ الجغرافيا وكأنها قصيدة. كل تلك المراكز والقرى المجاورة، من بللسمر إلى مربه، ومن بني مازن إلى العكاس، ومن بللحمر إلى السقا، تحكي قصة جنوبٍ لم تُنصفه العدسات سابقًا، لكنه اليوم في صدارة المشهد السياحي. هذه القرى ليست مجرد وجهات، بل هي روح المكان وسر الانتماء، فهي تحتضن الزائر بكرمها وبساطتها، وتمنحه شعورًا بأن الجمال ليس في البعد، بل في القرب. كما أن سكانها أصبحوا شركاء في صناعة التجربة، فتحوا بيوتهم كاستراحات ريفية، وقدّموا منتجاتهم المحلية، فصار السائح يخرج من المنطقة محمّلًا بذكريات ودفء إنساني نادر. ولذلك فإنني اليوم، ومن قلب تجربتي الشخصية في مناطق المملكة، أدعو بكل حب واعتزاز، كل من لم يجرّب السياحة داخل وطنه أن يفعل ذلك الآن. ليس فقط لأن الأسعار أصبحت مناسبة، والخدمات ارتفعت جودتها، بل لأنك ستكتشف شيئًا في داخلك أيضًا. ستدرك أنك كنت بعيدًا عن وطنٍ قريب، وأنك كنت تبحث في الخارج عن شيء هو في الحقيقة تحت قدميك، وعلى جبين سماء مدنك وقراك. والسياحة الداخلية ليست تجربة ترفيهية فقط، بل تحمل في طياتها فوائد وطنية عميقة؛ فهي تساهم في دعم الاقتصاد المحلي، وتمنح الفرص لأبناء وبنات الوطن ليكونوا شركاء في النجاح، من خلال العمل في مجالات الضيافة، والإرشاد، والتجارة، والحرف اليدوية. كما أنها تعزز الشعور بالأمن، حين يكون المواطن متفاعلًا مع محيطه، متنقلًا في أرجاء بلده، مطّلعًا على ثقافات المناطق المختلفة. فالوطن حين يُكتشف يُحب أكثر، وحين يُحب يُصان أكثر. وفضلًا عن ذلك، فإن السياحة الداخلية تساهم في تخفيف الضغط على السفر الخارجي، وتقلل من ازدحام المطارات ومصاريف العائلات، كما تُبقي الأموال تُنفق داخل حدود الوطن، فتنتعش المدن الصغيرة وتُبعث الحياة في القرى والمراكز النائية. وتُعد أيضًا وسيلة فعّالة لنشر الوعي البيئي والثقافي، وتعليم الأجيال القادمة أهمية الحفاظ على الطبيعة، واحترام التنوّع الجغرافي والثقافي الذي تزخر به المملكة. ولعل أجمل ما في هذه النهضة السياحية، أنها لم تُغيّر فقط مظهر المملكة، بل أعادت تشكيل هويتها في أذهان العالم. فأصبحنا نُعرف لا فقط كبلد نفطي أو ديني، بل كوجهة حضارية سياحية عالمية، تعتز بجذورها وتواكب العالم بلغة المستقبل. وهكذا، وبينما نقترب من بداية موسم الصيف، أُوجه دعوة صادقة لكل الأسر السعودية، ولكل من يسكن هذا الوطن العظيم: سافروا داخل المملكة. اتركوا لأبنائكم ذاكرة صيفية من ضباب عسير، أو غروب نيوم، أو ليل الطائف. علّموهم أن حب الوطن لا يُحفظ في النشيد فقط، بل يُعاش بين الجبال والبحر، وبين السوق الشعبي والمتحف، وبين يد عامل سعودي يقدّم لك الخدمة بابتسامة فخر. فالسعودية اليوم ليست كما كانت، ولن تعود كما كانت، وهذا الفضل بعد الله، لقيادة تعرف إلى أين تتجه، وتُدرك أن الجمال الحقيقي يبدأ حين نؤمن بأن أرضنا تستحق، وشعبنا يستحق، والمستقبل أمامنا.. واسع كصحرائنا، عميق كجذورنا، ومشرق كجبال السودة حين يعانقها الضباب.