لم تعد العملية الاتصالية مجرد إرسال رسالة من طرف واحد إلى جمهور صامت متلقٍ، فقد انتهى زمن الخطاب الأحادي والجمود الإعلامي، وأصبحنا في زمن التفاعل الحيّ والمشاركة؛ لذا تحولت الجهات والمؤسسات إلى كائنات نابضة بالحياة، تنبض بروح إعلامية تجعلها قريبة من جمهورها، لا مجرد أسماء وشعارات جامدة، لذ الروح الإعلامية هي القدرة على ضخ الحيوية في كل ما يُنشر، فتتجاوز الرسالة حدود الحروف والصور، لتلامس مشاعر الجمهور وتستفز تفاعله، وتجعل من كل منشور فرصة لبناء الثقة وتعزيز الهوية وترسيخ العلامة الذهنية. سابقًا، كانت العملية الاتصالية في أغلب المؤسسات تقوم على اتجاه واحد، النشر ثم النشر ثم النشر، دون الالتفات إلى الأصوات القادمة من الجهة الأخرى؛ لم يكن هناك استماع فعّال ولا استقراء لرأي الجمهور ولا حتى قياس لمدى رضا المتلقين. وكان لهذا الجمود أثر سلبي على صورة المؤسسات، إذ أصبحت الجهة في نظر جمهورها مغلقة، بيروقراطية، بعيدة عن نبض الناس، وكأنها تعيش في برج عاجي، لكن مع دخول وسائل التواصل الإعلامي الرقمي تغير المشهد تمامًا، وأصبح التفاعل عنوان المرحلة، والروح الإعلامية هي الوقود الذي يحرك عجلة التواصل. تتمثل مراحل التأثير الإعلامي في الانتقال من مجرد إبلاغ الجمهور بالمعلومات إلى تحفيزه على التفاعل، ثم دفعه إلى اتخاذ مواقف وسلوكيات إيجابية تجاه الجهة، تبدأ المرحلة الأولى بإتقان صياغة الرسائل الإعلامية وجعلها واضحة ومقنعة، ثم تأتي المرحلة الثانية، وهي فتح قنوات التفاعل عبر التعليقات والاستبيانات والمسابقات والمشاركات الجماهيرية وغيرها من أدوات الإعلام التفاعلي. أما المرحلة الأخيرة والأكثر أهمية، فهي إدارة هذا التفاعل بذكاء عبر الاستماع المستمر وتحليل ردود الفعل وإعادة ضبط الرسائل بما يتلاءم مع توقعات الجمهور. في المملكة، أظهرت دراسة صادرة عن الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع عام 2024 أن نسبة تفاعل الجمهور السعودي مع حسابات الجهات الحكومية على تويتر بلغت 76 %، مقارنة ب48 % فقط عام 2020، وهو ما يعكس التحول الكبير نحو الإعلام التفاعلي. وأكد التقرير أن 82 % من الجمهور يشعرون بثقة أكبر في الجهات التي تستجيب لتعليقاتهم واستفساراتهم بسرعة، مما يرفع من رصيدها الذهني ويعزز من مكانتها. عالميًا، أشار تقرير صادر عن مؤسسة Statista لعام 2024 إلى أن 64 % من المستخدمين يفضلون التعامل مع العلامات التجارية التي تستجيب لتفاعلهم على وسائل التواصل، كما أظهرت دراسة من Hootsuite أن المؤسسات التي تتفاعل مع جمهورها تحقق زيادة بنسبة 23 % في معدل الاحتفاظ بالعملاء. لذا يجب أن تتحول الجهات الإعلامية إلى كيانات حيّة مفعمة بالتفاعل. وهذا لا يتحقق فقط باستخدام التقنية، بل بفهم السلوك العاطفي لدى الناس. العاطفة هي مفتاح التأثير، إذ لا يكفي مخاطبة عقول الناس، بل لا بد من ملامسة قلوبهم، إن صياغة رسائل ذات طابع إنساني، واستخدام لغة قريبة من الناس، وإظهار التعاطف مع قضاياهم، كلها عوامل تجعل من التواصل أكثر تأثيرًا؛ على سبيل المثال، تجربة وزارة الصحة السعودية خلال جائحة كورونا كانت علامة فارقة، إذ لم تكتفِ الوزارة بإصدار بيانات رسمية، بل أدارت حملات تفاعلية عبر تويتر وإنستغرام، واستثمرت في مقاطع الفيديو القصيرة والرسوم التوضيحية، ووصلت نسبة التفاعل مع حملاتها إلى 84 ٪ وفقًا لتقرير الهيئة العامة للإعلام، مما أسهم في رفع الوعي المجتمعي وتقليل حدة الأزمة. يمكن النظر إلى تجربة شركة Apple التي جعلت من جمهورها شريكًا في تطوير منتجاتها من خلال فتح قنوات الاقتراحات والاستبيانات والتفاعل المستمر، فقد أظهر تقرير ل McKinsey أن الشركات التي تطبق نهج الإعلام التفاعلي تحقق معدلات نمو أعلى بنسبة 40 ٪ مقارنة بالشركات التي تعتمد أسلوب الاتصال الأحادي؛ كذلك، في بريطانيا، أطلقت BBC مشروعًا بعنوان "Make It Digital" الذي دعا الجمهور للمشاركة في إنتاج المحتوى الرقمي، مما زاد نسبة المشاهدات والتفاعل بنسبة 35 ٪ خلال عام واحد فقط. الإعلام الرقمي لم يعد مجرد أداة لنقل المعلومة، بل أصبح بيئة لبناء العلاقات وصناعة الثقة وتحفيز التغيير. الروح الإعلامية هي التي تجعل من كل تواصل فرصة لصنع فارق حقيقي، وهي التي تميز الجهات القادرة على البقاء في ذهن الجمهور عن تلك التي تذوب في ضجيج الإعلام اليومي، ومن هنا، فإن الاستثمار في رفع جودة التفاعل الإعلامي لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية لكل جهة تسعى لتكون حاضرة ومؤثرة في عالم سريع التغير. وفي الختام علينا أن ندرك أن الجمود الإعلامي بات هو وصفة للفشل، بينما التفاعل الذكي هو بوابة النجاح، فالروح الإعلامية لا تعني فقط أن نتحدث مع الناس، بل أن نصغي إليهم، وأن نشعر بهم، أن نصنع معهم قصص النجاح؛ هذا هو التحدي الحقيقي، وهذه هي الوصفة التي تضمن بقاء الجهات والمؤسسات في قلب الحدث وفي قلب الناس، فلتكن الروح الإعلامية نبراسًا لكل عملية اتصال، ولنجعل من كل رسالة جسرًا يصلنا بجمهورنا، لا جدارًا يفصلنا عنهم.