أحاجٍ ونوادر وقصص عن «عفاريت الآثار وأشباحها». في الظاهر هي قصة فتية ومعلمتهم يحلّون الألغاز لاكتشاف كنوز في قرية نائية في لبنان. ولكن في العمق، تعدّ رواية «صيف أرملة صاروفيم» للكاتب اللبناني مازن حيدر دعوة لتسليط الضوء على أهمية الآثار وقيمتها التاريخية، ومسؤولية كل منا لحمايتها وخصوصا خلال الحروب. وقال حيدر، المعماري اللبناني الشاب المقيم في باريس، في حديث لصحيفة «الرياض» إن موضوع روايته «صيف أرملة صاروفيم»، (دار هاشيت أنطوان / 2025): «ليس الحرب بحد ذاتها»، وإنما «تسليط الضوء على مجرى الحياة في الأماكن البعيدة نسبياً عن المعارك». وأوضح أن الحرب الأهلية اللبنانية هي «خلفيّة حاضرة دائمًا وقد شكلت هوية الناس والأمكنة راسمة قواعد للعلاقات الاجتماعية تتخطى موضوعي التهجير والقتل»، لكن «صيف أرملة صاروفيم» تجري أحداثها في قرية عين سرار «البعيدة عن أرض القتال» وهذا البعد كان «سبيلا للتأمل في باطن هذه الأرض وتاريخها القديم وآثارها التي تثير ريبة البعض وفضولهم، وتتحول إلى حُلمٍ بالاغتناء لغيرهم والتي يتفق القلائل على المحافظة عليها». وتابع حيدر أن «موضوع الآثار واغتناء البعض ليس موضوع الرواية الوحيد فإن الألغاز متشعبة في هذا المكان من جبل لبنان الشمالي وهي مرتبطة بتاريخ القرية الحديث كما القديم وبنوادر سكانها وميل البعض منهم إلى اختلاق القصص الغامضة». تنهض الرواية الثالثة لمازن حيدر على الكثير من البحث، وهو أمر بديهي باعتبار أن «البحث يرافق أي عمل أدبي وبالأخص إذا كان يتناول حقبة غير مُعاصرة. غير أن التبحر في الفترة الزمنية والمنطقة المقصودة في الرواية هي ثمرة أبحاث مستمرة في شتّى أعمالي البحثيّة أو الأدبيّة وهي أيضًا ابنة تجربتي الشخصية. فالمكان ليس متخيلا بالكامل! والرواية تذكر أسماء مواقع معروفة قد يكتشف موقعها الأكثر خبرة في مناطق لبنان بلا شك. أما التطرق لموضوع معبد مار قرياقوس وإقفال متحفه الصغير والغموض الذي لفّ مجموعته فهي قصة من عشرات القصص التي طرأت على بلادنا وسواها من البلاد العربيّة في ظل تفكك أسس الدولة»، كما قال حيدر» وهل الأحاجي والألغاز هي أيضا مستقاة من الكتب؟ أجاب حيدر ان هذه الألغاز متخيلة بالكامل، «لكنها ليست بعيدة عن أجواء الحلقات التي كانت تعقد في ليالي السمر في القرى. فذلك التمرين الذهني قد اندثر تدريجياً وحل مكانه الراديو والتلفزيون»، مؤكدا أن هذه الأحاجي وإن كانت «من نسج الخيال في هذا العمل فهي ليست بعيدة عن الواقع». بالفعل أبدع حيدر في نقل روحية هذه الألغاز، إذ بدت وكأنها مطابقة لتلك التي نقرؤها في كتب الأدب الشعبي. على طول الرواية، مع كل أحجية تصادفها، تشعر وكأنك انتقلت الى قرية نائية، حيث يتحلّق الصغار والكبار حول موقدة يستمعون الى قصص الحكواتية، ويتبادلون الأحاجي والحزازير، كمثل «لمّا الكبّة تِقلُب دَهَبْ وحْجار الضَيْعة تْصير تْرابْ، وَيْن اللحم قلّن هَرَبْ، تحت التينة البرغُل طاب» (ص.103) أو «من حدّ النصراني لسبت اليهود / سبعة ايّام كرّ وفرّ / غطّى الكحل حروف العمود / موتانا ما عَقلبن شرّ / خطّ، خطّين، حدّ وتنين / ردّة حارسها الشيخ عبّاس». (ص. 76) وعن دافعه لكتابة روايته، أجاب حيدر: هي «العلاقة الوطيدة التي تربطني بالأمكنة منها جبل لبنان الحاضر بشكل صريح في الرواية وبيروت، الغائبة الحاضرة في آنٍ معًا. فبيروت وضواحيها تُشكّل خلفيةً للعمل كونها مسرحًا للمعارك شاغلة بال النازحين إلى القرى الآمنة من بينهم أسامة ابنة الثمانية عشر سنة. أما ما رسم معالم الرواية كذلك فهي ذاكرة المرحلة تلك من تاريخ لبنان، أي أواخر الحرب الأهلية ومعركتي التحرير والإلغاء، مرحلة غنية بأبعاد إنسانية واجتماعية تستحق التوقف والتوثيق». وختم صاحب «صيف أرملة صاروفيم» حديثه مع «الرياض» بالقول أن خلفيته المهنية كمعماري مهتم بالتراث ليست هي ما دفعه لتسليط الضوء على الآثار وضرورة صونها، بل هو «الاهتمام بتاريخ البلاد الذي أعتقد أنّه يعني الكثيرين، فالمواطنة تبدأ أولاً بالتعرّف على تاريخ بلادنا، القديم منها كما الحديث». عن صيف أرملة صاروفيم - لم تكُن أسامة تعلم أنّ إقامتها القسريّة في قرية عين سْرار ستفتح أمامها أبواب ألغازٍ غامضة، تستوجب الشجاعة والفطنة لكشفها. ألغازٌ كتلك الأَحاجي الهائمة بين القبور في جبّانة المتاولة، أو كقصّة اختفاء آثار مار قرياقوس وعلامات الثراء الطارئة على بيت الراحل صاروفيم، حاجب متحف القلعة المُغلَق. احتدمت حرب التحرير في بيروت عام 1989، فأضحى منزل خالها ملحم ومحيطه في أعالي جبل لبنان ملاذًا آمنًا ذلك الصيف، بل مدرسة لها في سائر أمور الحياة. من هُنا ستنطلقُ كمعلّمةٍ خصوصيّة لطفلَين من نازِحي السواحل. وهنا ستتعلّم الصبر على قلقها على والديها المُرتبطَين بوظيفتَيهما في العاصمة. وهُنا أيضًا ستتعرّف إلى نزار الشابّ اللطيف، العالِم بشؤون القرية وأدقّ تفاصيلها كما ردّد مرارًا، بما فيها ذلك السرّ الذي صانتْه قاطنةُ البيت أعلى تلّ اللزّاب الشامخ. امرأةٌ قاسيةُ الملامح، غريبة الأطوار.. هكذا كانت أرملة صاروفيم، حارسة الجبّانة وما فيها من أسرار. مازن حيدر كاتب لبناني ومهندس باحث في التراث المعماري (مواليد بيروت، 1979). له العديد من البحوث بالعربيّة والفرنسيّة عن عمارة بيروت السكنيّة في القرن العشرين. صدرت له روايتان «فور ستبس داون» (2017) و«الرجاء استبدال الأكاليل» (2023)، و«صيف أرملة صاروفيم» روايته الثالثة.