من الصورة القاتمة التي تتكرر في بعض المجتمعات الغربية، مشهد التحايل على القروض؛ حيث يقدم بعض المهاجرين على الحصول على قرض كبير لشراء بيت أو مشروع، وما إن يتسلم المال حتى يغادر إلى بلاده، تاركًا وراءه التزامات لم يفكر يومًا في أدائها، وربما عاد بعد عامين أو ثلاثة، معلنًا عجزه عن السداد، لتضعه السلطات على لائحة سوداء تحرمه من بعض المعاملات، فلا يستطيع استئجار مسكن باسمه، ولا شراء سيارة بالتقسيط، لكنه لا يتورع عن التحايل مجددًا بالاقتراض أو الشراء بأسماء آخرين، وأحيانًا تنتهي القضية بتسوية مع الجهات المحصّلة، فيكتفى منه بسداد نحو 40 % من القرض، بينما يقسط الباقي بعد احتساب «حدود دنيا» لمعيشته.. لعبة التحايل السالفة الذكر وإن كان ظاهرها القانون، فهي في حقيقتها إساءة كبيرة تلطخ سمعة الجالية المسلمة كلها، وترقى إلى الحرام الصريح؛ فالذي يأخذ قرضًا حتى لو فرضنا جدلًا جوازه في بعض الحالات بضوابط فإنما يأخذه بنية الأداء لا بنية التهرب، أما من يعقد العزم من أول يوم على المراوغة أو الهروب أو الاحتيال، فإنه يجمع بين محظور الربا ومحظور الخيانة.. يقول النبي المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»، ولم يحدد النص ديانة الناس هنا؛ وكم هو شديد هذا الوعيد حين يقترن بنصوص القرآن الواضحة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله صلوات الله وسلامه عليه: «من غشّنا فليس منا». من دخل بلاد الغرب بعقد إقامة أو لجوء أو عمل، فإنه ملتزم بما اشترطوه عليه من عقود، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾، والنبي عليه الصلاة والسلام جعل الغدر من خصال المنافقين: «إذا عاهد غدر»، وكان يوصي جيوشه في مواجهة أعدائهم: «لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا»؛ فإذا كانت الخيانة والغدر محرّمين حتى في حال الحرب، فكيف تُستباح في حال السلم، مع من آوى المسلم ومنحه فرصة إقامة وعمل وحياة كريمة؟ لا ريب أن الأثر الاجتماعي لهذا التحايل المقيت يتجاوز الفرد، إذ يجعل المؤسسات المالية أشد حذرًا مع المسلمين، وربما يفرض قيودًا جماعية تعاقب الأبرياء بجريرة المفرّطين، كما يعزز الصور النمطية عن المسلم المحتال، ويضعف ثقة المجتمع الغربي بجاليته، ويجعلها أكثر عرضة للتضييق والريبة، ولا شك أنه يحرم الجادين من تسهيلات وفرص كان يمكن أن تعينهم على الاستقرار، لولا ما أحدثه غيرهم من إساءات، والمشكلة الأعمق أن هذا السلوك يُظهر المسلم بارعا في «اللعب على القوانين»، بدلا من أن يكون قدوة في مكارم الأخلاق، والحق أن الإسلام جاء ليبني سمعة جماعة صالحة، لا أفرادًا يتفننون في التحايل، والمسلم في بلاد الغربة سفير لدينه قبل أن يكون مستفيدًا من قوانينها، وما يفعله البعض من غش وخيانة لا يُحسب عليهم، بل يُحسب، وللأسف، على الإسلام الذي ينتسبون إليه. أختم بأن معضلة التحايل في القروض ليست في نصوص القانون ولا في صرامة النظام، بل في ضعف الضمير وغيابه؛ ومن استحل مالًا بنية المراوغة فقد خان نفسه قبل أن يخون غيره، وأن الدين لا يصان بالدهاء، بل بالوفاء، ولا يحفظ بالعجز عن السداد، بل بالصدق في الأداء؛ والمسلم الصادق الأمين لا يُعرف بدهائه في الإفلات، بل بأمانته في الالتزام.