مروان طه المدوّر، كاتب الرواية اليتيمة. هو كاتب سوري ينشر للمرة الاولى، على رغم تخطيه الخمسين من العمر. عاش بعيداً عن الوسط الادبي وكان يعمل مفتشاً في وزارة الاقتصاد. أما كونه كاتب الرواية اليتيمة، فلذلك قصة: أعلن رياض نجيب الريس في وقت سابق من العام الماضي عن "جائزة الناقد للرواية" فتلقى مكتبه عشرات الروايات لكتاب جدد من انحاء العالم العربي، وفي كانون الاول ديسمبر الماضي اعلنت نتائج الجائزة وورد فيها تنويه برواية مروان طه المدور "جنون البقر"، وبعثت دار رياض الريس برسالة الى مروان المدور تعلمه فيها رسمياً بالنتيجة وتطلب منه الحضور الى مقر الدار في بيروت لتوقيع عقد لطباعة روايته، وكانت المفاجأة ان وفداً من اهل مروان المدور حضر الى الدار ليتم اجراءات العقد ويفيد ان المؤلف مات قبل شهر من اعلان نتائج الجائزة. هكذا جرى نشر رواية مروان طه المدور الوحيدة على انها "رواية يتيمة"، فكأنها، مع فارق ضئيل، اعادة معاصرة ل"القصيدة اليتيمة" المعروفة في التراث العربي كأشهر قصيدة غزل، ولها هي ايضا قصتها: أصرت فتاة عربية على الزواج من صاحب افضل قصيدة تتغزل فيها، فأتاها الشعراء من انحاء جزيرة العرب ولم تحظ قصائدهم بر ضاها. وفي الطريق الى قصر الفتاة التقى شاعران، فقرأ كل منهما للآخر قصيدته التي سيلقيها، وأعجب أحدهما بقصيدة الآخر فقتله بعدما حفظ القصيدة غيباً... ووصل الشاعر القاتل الى قصر الفتاة والقى قصيدة القتيل. وحين وصل الى البيت الاخير: إن تُتهمي فتهامة وطني أو ُتنجدي أن الهوى نجدُ. ... صرخت الفتاة بلوعة: اقبضوا عليه انه قاتل زوجي. وهي كانت حادة الذكاء حين لاحظت ان لهجته في الالقاء تختلف عن لهجة اهل تهامة حيث موطن المؤلف، فقدرت ان هذا الذي يلقي القصيدة ليس مؤلفها، وهو بالتأكيد قاتله. وسمّيت القصيدة "يتيمة" بسبب وفاة مؤلفها قبل القائها. *** وبعيداً عن ُيتم الرواية المعاصرة والقصيدة القديمة، نعتقد ان "جنون البقر" ستحتل موقعاً بارزاً في الروايات العربية التي اتخذت من حرب لبنان اطاراً لها او موضوعاً. وهنا نذكر ان العرب غير اللبنانيين كتبوا روايات عدة عن حرب لبنان، لان بيروت كانت تعنيهم كعاصمة ثقافية ولان عدداً منهم كان يناصر المقاومة الفلسطينية التي كان وجودها في لبنان واحداً من عناصر حربه، فالفلسطينيون كتبوا روايات عن شخصيتهم الوطنية حين تتبلور وتواجه هجمات الاعداء والخصوم، والسوريون كتبوا كأدباء افراد عن محنة بيروت، فكان منهم ياسين رفاعية في "الممر" التي اعقبها بروايتين ليتمم ثلاثية عن حرب لبنان، والروايتان هما "دماء بالالوان" و"رأس بيروت". وهجست غادة السمان السورية اللبنانية مبكراً بالحرب في روايتها "بيروت 75" ومن بعدها كتبت رواية "كوابيس بيروت"، لتظهر ملامحُ الانهيار اللبناني في عدد من أعمالها اللاحقة، خصوصاً روايتها "ليلة المليار". ولا ننسى من السوريين قمر كيلاني التي كتبت عن حرب لبنان "بستان الكرز"، وفي معرض الاستعراض نتذكر رواية الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل المبكرة "الشياح" ورواية المصري صنع الله ابراهيم "بيروت بيروت". * * * "جنون البقر" لمروان طه المدور أحدث رواية سورية عن حرب لبنان، وربما، بسبب برودة هذه الحرب في ايامنا، يتقدم بناء الرواية الفني محيلاً الى الخلفية الملمح التراجيدي للحرب. وهذا المؤلف الذي مات قبل ان يرى روايته مطبوعة استطاع الجمع بين مجالي البناء الفني لرواية تتخذ من الحرب اطاراً لها والشحن التراجيدي الذي يصل احياناً الى الهذيان لكنه لا يفلت خيطاً درامياً يضبط الشهادة الواقعية على انهيار وطن. يختار مروان طه المدور لروايته بطلاً هو الجثة أليست الجثة هي البطل الحقيقي لحرب اخذت اسرارها الكبيرة والصغيرة معها الى المدفن الجماعي؟، ومن خلال استنطاق الجثة نشهد النموذج اللبناني التاجر الذي يفتقر الى تقاليد ويرتفع كيفما كان ارتفاعه من دون النظر الى النتائج واكلافها على الجماعة: ولد قوي يحمي ولداً طائشاً لقاء المال، و"يترقى" الى التهريب المحلي والاقليمي والدولي، ثم يحتل مكانة في نادي تجار السلاح وتجار الشعارات السياسية. وفي رحلة الرجل من "القاعدة" الى "القمة" تتقطع الأواصر الضعيفة التي تربطه بعائلته وتربط ما بين افراد هذه العائلة. لا يعتني مروان طه المدور بالتوثيق الحرفي، ففي "تاريخ" بطله قفزات فوق "التاريخ" الواقعي للحرب، لكنه يقدم نموذجاً لبنانياً للشخصية البريختية، فلا يرسم لبطله صورة فوتوغرافية كاملة الملامح لان البطل لوحة يتداخل فيها المكان مع الشخص مع حركة الاحداث التي تسوق المكان والشخص الى مصير سيئ. * * * مذكرات جثة؟ ربما هذا ما كتب مروان طه المدور، لكنها ليست فقط جثة البطل، بل ايضا جثة وطن مزروع على قارعة القوى الكبرى ومحكوم بعقائد ابنائه التي تغلب عليها ذهنية تاجر يتعامل بالسلعة: والسلعة هنا مكان وأبنية وذكريات وأفكار وأغذية، وقد تكون ايضا اعمالا خيرية تمول بفائض ربح الذخائر الحربية نفسها. مروان طه المدور يلعب بالرعب، ينسجه كوابيس، ويحكي حكاية حرب لبنان على طريقته: تفكك العائلة وانهيار القيم وسيادة نموذج المغامر بكل شيء حتى بأهله وولده، الى ان يظهر المغامر في صورة جثة تتذكر وتشهد مقتلتها مرات عدة قبل ان تدخل في ظلمة التراب. * * * "جنون البقر" رواية مروان طه المدور الوحيدة. نعتقد ان حضورها سيستمر بين الاعمال الروائية عن حرب لبنان، ولن يضير مؤلفها الذي مات قبل رؤيتها مطبوعة ان يكون له عمل واحد، فكثير من الاعلام استمرت شهرتهم من خلال عمل واحد فقط.