تكتسب الزيارة التي يقوم بها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لفرنسا، أهمية كبيرة؛ لأنها جاءت في وقت يشهد فيه العالم تحولات كثيرة على مختلف الصعد، وهي التحولات التي يتوقع أن تؤدي إلى عالم متعدد القطبية، لا تستفرد فيه قوة كبرى بتحديد خيارات الدول الأخرى وقراراتها. هذه الزيارة، التي ربما هي الأطول التي يقوم بها سموه منذ توليه أمانة ولاية العهد، تأتي ضمن الجهد المتواصل الذي يبذله سموه في المنتديات والمؤتمرات والمنابر العالمية، لطرح رؤية جديدة لعالم مستقر وخالٍ من الحروب والفقر، ففي هذا العالم متسع للجميع، لكن أنانية بعض الدول وغطرسة القوة، لا تترك للدول الفقيرة أو ما يسمّى دول الجنوب فرصة للعيش بكرامة، مثل باقي الشعوب في دول الشمال. وفي هذه الأجواء التي تشهد عودة إلى أيام الحرب الباردة، وسباق التسلح، وارتفاع وتيرة الحديث عن استخدام الأسلحة النووية، وتنامي النعرات القومية والحروب بالوكالة، والسعي الحثيث لإقصاء الآخر، والتكالب المحموم على ثروات العالم الناضبة، اختار سمو ولي العهد خطًا مغايرًا للسياسات التي اعتبرها الآخرون من المسلمات، سواء عند التعامل مع بعض المأثورات التي لم تعد تجاري التغيير في هذا العالم المتسارع، أو عند التعامل مع الدول التي لم تكن وفية لتعهداتها أو "تحالفاتها" وتمارس الفوقية في تعاملاتها. ومنذ تسلمه ولاية العهد، أحدث سموه تغييرا على المستوى المحلي والخارجي، فقد أرسى أسس الحكم الرشيد ورتب البيت الداخلي، وقضى على جيوب الفساد، وأعاد رسم الأولويات وأطلق طاقات الشباب، وأعاد للمرأة حقوقها وقاد حرب التحالف العربي في اليمن من دون استشارة أحد. فاجأ سموه الجميع وسحب البساط من تحت أقدامهم، عندما أعاد تطبيع العلاقات مع إيران بعد سنوات طويلة من الاختلاف، وأعاد سورية إلى الجامعة العربية، وخفض إنتاج النفط لإعادة الاستقرار للسوق العالمي، على الرغم من معارضة الولاياتالمتحدة. سبب كل هذا إرباكًا وحيرة في دوائر صنع القرار في الدول الغربية، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة أمير شاب يتحلى بشجاعة وجرأة على التحدي والدفاع، دون تردد عن المصالح الوطنية لبلاده. كان واضحًا منذ البداية، أنه يمتلك رؤية لتعزيز دور المملكة على المستوى الإقليمي والعالمي، وقد أثبتت الأحداث مصداقية هذا الموقف، فقد عادت العلاقات مع إيران برعاية الصين إلى وضعها الطبيعي، وكان الاستقبال اللافت لسمو وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان في طهران يوم السبت، صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والعمل معًا من أجل شرق أوسط جديد خالٍ من أسلحة الدمار الشامل. لقد تحول أعداء الأمس إلى حلفاء اليوم، وكان محمد بن سلمان شجاعًا في قرار الحرب، وشجاعًا في قرار السلام. ومن خلال مراجعة التحالفات وإعادة تقييمها واللجوء إلى خيارات جديدة مع القوى المؤثرة على الساحة الدولية، وسعت المملكة دائرة الأصدقاء الذين يعترفون بمكانة هذا البلد ودوره في إعادة التوازن للنظام العالمي المختل، ولكن من دون استعداء أحد، لأن لا مصلحة للمملكة في لعبة الأمم والمعايير المزدوجة التي خرقت كل الخطوط الحمراء وكل المواثيق الدولية. إلا أن سياسة الدبلوماسية الناعمة لا تعني عدم اللجوء إلى الدبلوماسية الخشنة، إذا ما تخطى الآخرون حدود اللياقة. إلى أين يقودنا هذا؟ لقد بات واضحًا أن سمو ولي العهد يهدف إلى بناء قوة عالمية ثالثة، تمارس الحياد الإيجابي في الأزمات الحالية بين حلف النيتو وروسيا، وبين الولاياتالمتحدةوالصين. وفي هذا السياق جاءت زيارة سمو ولي العهد لفرنسا ولقائه بالرئيس أيمانويل ماكرون، الذي تتقاطع مواقفه إلى حد كبير مع مواقف سموه في كثير من القضايا، فالرئيس ماكرون تعرض للخيانة من الولاياتالمتحدة في قضية بيع الغواصات النووية لأستراليا، وله موقف من الخلاف الحالي بين الولاياتالمتحدةوالصين، كما أنه لا يبدي حماسًا كبيرًا لدعم أوكرانيا إلى ما لا نهاية، مثلما تفعل ألمانيا وبريطانيا، وهو يدعو إلى استقلالية القرار الأوروبي بعيدًا عن الإملاءات الأميركية، ولا يقبل بتجاهل بلاده كقوة نووية، ويتفق الزعيمان على ضرورة التوصل إلى ميثاق مالي عالمي جديد، على أمل المساهمة في "تحول حقيقي للنظام" لمكافحة تغير المناخ والفقر. وسوف يرأس سموه وفد المملكة في هذا المؤتمر، الذي سيحضره نحو مئة دولة بينها خمسون دولة يمثلها رئيسها أو رئيس حكومتها، وسوف يشارك في رسم خارطة طريق لإعادة هيكلة الديون وحقوق السحب الخاصة والصناديق السيادية والبنوك متعددة الأطراف، وسوف يعرف العالم من يختار بين محاربة الفقر وعدم المساواة ومن يختار الاستثمار لحماية كوكب الأرض، الذي تعمل الدول الغربية على تدميره، بينما تعمل المملكة على حمايته ولو من خلال مبادرة الشرق الأوسط الأخضر. تقاطع المواقف انعكس في بيان الرئاسة الفرنسية، الذي قال إن الرئيس إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أكدا -خلال لقائهما يوم الجمعة في باريس- الالتزام بالأمن والاستقرار في الشرق الأدنى والشرق الأوسط، ومواصلة جهودهما المشتركة من أجل تهدئة دائمة للتوترات. ومثلما عمّقت المملكة علاقاتها مع الصين، وبخاصة في الجانب الاقتصادي، الذي تجلى في الاتفاقيات الاستثمارية بعشرة مليار دولار، التي وقّعت في مؤتمر رجال الأعمال العرب والصينيين، الذي عقد في الرياض الأسبوع الماضي، فقد اتفق الجانبان على "تطوير وتعميق الشراكة بين البلدين" وأبدت باريس استعدادها أيضاً "لمواكبة المملكة العربية السعودية في تعزيز قدراتها الدفاعية"، وذكّر الرئيس الفرنسي ب "نية الشركات الفرنسية الاستمرار في مواكبة السعودية في تنفيذ رؤية 2030 الطموحة". هذا يعني أن عهد الاستثمار من جانب واحد قد انتهى، وأصبح مطلوبًا الآن أن يبادر رأس المال الغربي للاستثمار في المملكة، التي أعدت التشريعات والفرص والمشاريع لجذب رأس المال الأجنبي. وضمن هذا المسعى، تطمح المملكة إلى استضافة معرض إكسبو 2030 ليتزامن مع تحقق أهداف رؤية المملكة 2030 وهو ملف يتابعه سمو ولي العهد شخصيًا، فإذا فزنا في المنافسة على الإكسبو، واستضافة كأس العالم 2030، فسوف يُعدُّ هذا نصرًا كبيرًا للمملكة ولرؤية سمو ولي العهد. إنه نصر ل"لاعب أساسي على الساحة الدولية، لا يمكن لأحد أن يتخطاه"، كما يقول جورج مالبرونو كبير محرري صحيفة الفيغارو عن سمو ولي العهد، في مقابلة مع قناة فرانس 24، "فهو لاعب في الحرب الأوكرانية ولاعب في الشرق الأوسط. هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي أن السعودية بلد مهم للغاية، ليس في سوق النفط فحسب، وإنما دبلوماسيًا أيضًا". . .