الاتحاد الدولي يختار"كنو" رجل مباراة السعودية وفلسطين    كنو: سعيد بتسجيل هدف الفوز على فلسطين وهدفنا تحقيق كأس العرب    الأدب وذاكرة التاريخ    قلم وشمعة وإدارة    أسبوع الفرص والمخاطر للسوق السعودي    الجريمة والعنف والهجرة تتصدر مخاوف العالم في 2025    معرض جدة للكتاب 2025 يسجل إقبالا كبيرا في يومه الأول    المرونة والثقة تحرك القطاع الخاص خلال 10 سنوات    السعودية تتفوق على فلسطين وتتأهل لنصف نهائي كأس العرب    العمل التطوعي.. عقود من المشاركة المجتمعية    القبض على 7 إثيوبيين في عسير لتهريبهم (140) كجم "قات"    المملكة.. مظلة سياسية واقتصادية واجتماعية مكنت سورية من مواجهة التحديات    مشروعات نفطية عالمية ب25 مليون برميل يومياً لتوازن السوق    نائب أمير الرياض يعزي أبناء علي بن عبدالرحمن البرغش في وفاة والدهم    مدينون للمرأة بحياتنا كلها    المغرب لنصف نهائي كأس العرب    انطلاق أكبر هاكاثون في العالم    بيلينجهام يثق في قدرة ألونسو وريال مدريد على التعافي رغم الضغوط    كتاب جدة يستهل ندواته الحوارية بالفلسفة للجميع    نائب وزير البيئة يترأس الاجتماع التشاوري لوزراء البيئة العرب ويعقد لقاءات ثنائية    بلجيكا: الأصول الروسية المجمدة ستستخدم لتمويل قرض لأوكرانيا    وفاة طفلة رضيعة في غزة بسبب البرد الشديد    القصبي يشرف مهرجان المونودراما بالدمام.. وتتويج عشرة فائزين في ليلة مسرحية لافتة    نائب أمير جازان يستقبل الدكتور الملا    خوجة في مكة يستعرض تاريخ الصحافة السعودية ومستقبلها الرقمي    يوم الجبال الدولي مشاركة واسعة لإبراز جمال تضاريس السعودية    القيادة تهنئ رئيس بوركينا فاسو بذكرى يوم الجمهورية لبلاده    روضة إكرام تختتم دورتها النسائية المتخصصة بالأحكام الشرعية لإجراءات الجنائز    45 ركنًا تستعرض خيرات حفر الباطن في مهرجان المنتجات الزراعية    رئيس الخلود: صلاح غير مناسب لدوري روشن    برعاية محافظ صبيا المكلف"برّ العالية" تُدشّن مشروع قوارب الصيد لتمكين الأسر المنتجة    طرق ذكية لاستخدام ChatGPT    ريما مسمار: المخرجات السعوديات مبدعات    فعاليات ترفيهية لذوي الإعاقة بمزرعة غيم    أمير المدينة المنورة يستقبل تنفيذي حقوق الإنسان في منظمة التعاون الإسلامي    مهرجان البحر الأحمر.. برنامج الأفلام الطويلة    ممدوح بن طلال.. إرثٌ لا يرحل    استضعاف المرأة    مستشفى الملك فهد الجامعي يعزّز التأهيل السمعي للبالغين    «طبية الداخلية» تقيم ورشتي عمل حول الرعاية الصحية    تطعيم بلا بروتين بيض    غرفة إسكندراني تعج بالمحبين    بيروت تؤكد سيادتها واستقلال قرارها الداخلي.. رفض لبناني رسمي لدعوة إيران    ضغوط أمريكية لتنفيذ المرحلة الثانية.. واشنطن تلزم تل أبيب بالتقدم في اتفاق غزة    «مسألة حياة أو موت».. كوميديا رومانسية مختلفة    أمير الشرقية يسلّم اعتماد "حياك" لجمعية «بناء»    زواج يوسف    الأرض على موعد مع شهب التوأميات    في ذمة الله    احتيال إلكتروني يحرر سجيناً في بريطانيا    اتفاقيات مليارية لدعم القطاعات التنموية    في سادس جولات اليورباليج.. مواجهة حاسمة بين سيلتيك غلاسكو وروما    القيادة تعزّي ملك المغرب في ضحايا انهيار مبنيين متجاورين في مدينة فاس    دراسة تكشف دور «الحب» في الحماية من السمنة    استئصال البروستاتا بتقنية الهوليب لمريض سبعيني في الخبر دون شق جراحي    ضمن المشاريع الإستراتيجية لتعزيز الجاهزية القتالية للقوات الملكية.. ولي العهد يرعى حفل افتتاح مرافق قاعدة الملك سلمان الجوية    طيور مائية    ولي العهد يفتتح مرافق قاعدة الملك سلمان الجوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أديب مكة المكرمة: أحمد السباعي.. قراءة في آثاره الأدبية (2-2)
نشر في المدينة يوم 14 - 03 - 2012

(5) السيرة: وسيرة السباعي، بدت لمن درسوها أسهل مأخذًا، وبخاصة أن ميثاقها القرائي تعدل مرتين، تبعًا لتطور سياقات التلقي، لأنها كتبت على مرحلتين، وصارت بهذا أقرب، إلى منهج جورج ماي (Georges May)، المرن، وبالذات في صيغتها الأساس (أبو زامل)، منها إلى تعريف فيليب لوجون (Philippe Lejeune)، الأكثر صرامة في الالتزام بحدود التعريف. ويمكن اعتبار السباعي، من خلال سيرته الذاتية، رائد أدب الاعتراف في واقعنا المحلي، وهو إنما بدأ بنفسه ليدعو المجتمع إلى الاعتراف بعيوبه ويتطهر من آصاره وأوضاره، كما تطهر هو باعترافاته وعالج عيوبه، منذ البداية، حتى صار من الأشخاص الذين يشار إليهم بالبنان. ولعل هذا هو السبب الأول الذي جعل النقاد يحتفون بسيرة السباعي، مثل: الدكتور منصور الحازمي، والدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور معجب الزهراني. أما السبب الثاني: فهو قيمتها الفنية، يقول الدكتور الزهراني، مثلًا: «لا نكاد نعثر على عمل يضاهي في قيمته الفنية والفكرية عمل أحمد السباعي..(فالأعمال الأخرى) تغيب عنها كليًا تلك الرؤية النقدية التحليلية التي تميز بها عمل السباعي». (موسوعة الأدب السعودي، دار المفردات بالرياض، 2001م، الجزء الخاص بالسيرة، ص 19). وهذا الحكم النقدي الحديث نسبيًا، يعني أن أول سيرة ذاتية في الأدب السعودي، لا تزال تتصدر قائمة الأفضل، في هذا الجنس الأدبي، حتى بعد صدور عشرات السير الذاتية على مدى ستين عامًا. والزهراني يسمي إقدام السباعي على كتابة سيرته الذاتية، في ذلك الوقت، بالمغامرة، لأنه يعيش في مجتمع مغلق يكبت الفردانية، مجتمع لا يقول الفرد فيه كلمة (أنا) إلا ويعقب عليها سريعًا بعبارة (أعوذ بالله من أنا). وهي العبارة التي وقف عندها الحيدري طويلًا في دراسته عن فن السيرة الذاتية في المملكة وأعادها إلى أسباب أخلاقية ونفسية، ولكن معجب الزهراني نظر إليها من منظور (ثقافي- أنثروبولوجي) وأنتهى إلى نتيجة حاسمة عمّمها على بقية الأعمال، يقول: «إن مقولة قتل الأب الرمزي هي المفتاح الأهم لقراءة مجمل كتابات السباعي الإبداعية». (السابق ص 27). ويستدرك سريعًا أنه لا يقصد المقولة بمفهومها الفرويدي، بل بمعنىً أيديولوجي أعمْ وأشملْ، لأن الأب يمثل ثقافة جاهلة يتمرد عليها الكاتب». (السابق ص 27). وفي رأيي، أن كتابة السيرة على مرحلتين، أولاهما بالتلميح، والثانية بالتصريح، تدل على حنكة السباعي واستفادته من فشل تجربة المسرح، وأن هذه الوسائط المعرفية والجمالية الحديثة تحتاج إلى نوع من التمرير المتدرج. ولعل دراسة الدكتور الزهراني هي أعمق الدراسات التي اطلعت عليها وإن كان يشوبها نوع من الخروج بنتائج ضخمة، بناء على مقدمات محدودة، فهو مثلًا يرى أن تخلص السباعي من التعليم على يد ذلك الفقيه الجاهل بأصول التربية الحديثة وانتقاله إلى كُتَّاب (الخالة حَسِيْنَة) هو السبب الأول الذي أهدى الأدب العربي السعودي، «شخصية السباعي المبدعة الخلاقة التي نعرفها اليوم». حسب عبارات الزهراني. (موسوعة الأدب السعودي، ص 27). ولا خلاف كبيرًا على هذه النتيجة، أما الأسباب فمن الأرجح أنها أكثر تعقيدًا وتركيبًا من اقتصارها على جزئية واحدة وإن كانت هامة. واختصارًا للوقت، أخرج من سيرة السباعي بأمثولة واحدة تشبه الأمثولة التي مرت بنا في قصة «صبي السلتاني»، فقد كان السباعي في طفولته عندما يريد أن يتنصل من بعض الواجبات التي يُكلف بها يعود إلى البيت لاهثًا ويقول لجدته: «رأيت الدجيرة بعيني تناديني تعال ياولدي تعال ياحبيبي ورأيت إحدى رجليها تشبه الحمار». (أيامي 119). (وانظر أيضًا، د. منصور الحازمي، الوهم ومحاور الرؤيا، ص 148). والولد هنا يعيد تدوير حكاية الدجيرة، وبهذا تنتقل سيرتها من جيل إلى جيل، من خلال هذا السند الملتبس. ولا يخفى ما في هذه الصورة الجمالية من نقد عميق لسلاسل السند، وكيف تتسلل إليها التحريفات والأكاذيب، بسبب الأغراض، وأحيانًا بسبب التقية أو الاختزال أو الوهم، ومع ذلك تظل تتداول، وتكتسب مع الزمن مزيدًا من الموثوقية والحصانة لأننا ببساطة ولسبب تقني بحت محكومون ببقاء الخبر واختفاء السبب. (6) راوية فكرة «خصب اللاوافي»: أما أكثر نصوص السباعي إثارة فإنها رواية «فكرة»، مما يدلل على أنها نص حي، فالنصوص الميتة لا تثير أحدًا، وأول من أثارت معاصريها، وكشفت قلة ذخيرتهم في نقد الرواية. وعندما نقرأ «فكرة» اليوم، منسوبة إلى سياقاتها الخاصة، نجدها تنفتح على كثير من القضايا، المعرفية، والفكرية، والجمالية؛ فالأجناسية الروائية ساحرة بطبيعتها، وتكتنزُ من الإمكانات السردية، وتستثيرُ من دفائن الذات المبدعة، ما يمدها بطاقة مضاعفة، ويفتح أمامها آفاقًا دلاليةً واسعة؛ مما يتطلب قراءات نقدية نوعية تتخطى الدلالات الأولية وتفحص المستويات العميقة في النص. أما القراءات الضعيفة فإنها تفقر النصوص، وبالذات لو أغفلت سياقات إنتاجها، وتلقيها، والعوالم التي تنيرها، والفضاءات التي ترتادها. ولأن لكل شيء في الحياة عدة جوانب؛ فإن ما يداخل هذه النصوص المبكرة من قصور أو نقص، يعوضه من جانب آخر، ما يسميه (روجيه كايوا) ((Roger Caillois: «خصب اللاوافي، أو خصب اللامكتمل». (روجية كايوا، الإنسان والمقدس، مركز دراسات الوحدة العربية، ترجمة: سميرة ريشا، 2010م). وأول ما يتضح في الرواية، ذلك الإحساس المرهف بالمحيط الإنساني، والانفتاح العميق على العصر، والمنظور الجديد للذات والعالم، بصورة مختلفة، عن طرائق التفكير التقليدية، وهذا الوضع على المستوى السردي، استدعى اصطفاف الكاتب والسارد والبطل، الأنا المعانية والأنا الكاتبة والأنا الساردة، عبر إدماج صوت مؤلف، يتأمل ما هو بصدد حكايته، ويجهر بهذه الأفكار والآمال إبداعيًا، بحيث يتداخل الحوار والوصف، مع اللغة السردية. ومن جانب آخر، يتجلى في الرواية، ما يمكن أن يُسمى «عاطفة التفكير»؛ لأنها: * أولًا: تعتمد جدلية متوترة، بين الإطار الرومانسي ببعده الخيالي، والمضمون الواقعي ببعده الفكري. * ثانيًا: تؤسس لإدارة دفة التمثيل السردي، والأداء اللغوي، لصالح الإثراء المعرفي أكثر من التأثير العاطفي المحض. * ثالثًا: تهدف إلى ترقية الوعي، وتوجيهه إلى طرائق تفكير جديدة؛ أي أن الانفعالات العاطفية هنا، إنما تمثل طقسًا للحلم، وركيزة لوعي جديد، وإدراك جديد. ولو أخذنا مثالًا واحدًا، يتعلق بالمجتمع الثابت، الذي ينبذ صور الاختلاف والتنوع، فإن أنموذجًا مثل شخصية (فكرة)، يشكل صدمةً شديدة لنزعة التماثل والتطابق التي تسود المجتمعات الأقل حظًا في اكتساب المعرفة والمحرومة من القدرة على امتلاك الوعي النقدي. ولذلك، وقر في ذهن السباعي أنه لا بد من إنتاج نماذج مختلفة عن نمطية السائد، لأن الشرط الأول من شروط التطور في أي مجتمع إنساني يكمن في إعادة قيمة الاعتراف بالتنوع والاختلاف. وجرى خرق مألوف الحكي في الرواية إضافة إلى شخصية «فكرة» بملامح من الواقعية السحرية في الريف أسرت (سالم) وشكلت بدورها فراغات لإطلاق عنان أفكاره هروبًا من حالة الجمود في المدينة، حيث كل شيء محسوم، ومرتب ورتيب. وهذه أمور كانت أكبر من أن يستوعبها نقاد زمانه وكثير ممن أتوا بعدهم، مع أن هذا النوع من الروايات وجد رواجًا نقديًا كبيرًا بعد أن شاع لاحقًا في روايات أمريكا اللاتينية. ومما يميّز رواية السباعي، أنها أول رواية بطلتها امرأة محلية، وهو ما لم يتحقق في (التوأمان)، و(الانتقام الطبعي)، و(البعث)؛ فهذه الروايات الثلاث جاء حضور المرأة فيها ثانويًا، وعادة ما تكون أجنبية؛ فهي إما فرنسية عند الأنصاري، أو سورية لدى الجوهري، أو باكستانية في رواية المغربي. وخلافًا لظهور المرأة في القصة القصيرة، تجنبت تلك الروايات حضور المرأة المحلية تحديدًا؛ فالقصة القصيرة تركز على جانب واحد، أو فكرة واحدة، أما الرواية فإنها تخلق عالمًا شاملًا، وتقوم على الكشف و(اطِّراح الحياء). وهذا يفسر تأخر ظهور المرأة المحلية في الرواية عشرين عامًا. وشخصية البطلة (فكرة) هي تميمة الرواية، وبؤرة التوسيع السردي، وهي شخصية مبتكرة، وتجريبية في زمنها، ومرسومة بعناية لتناسب معمار الرواية، ذلك المعمار القائم على إغلاق الحبكة وتعويم الشخصية. يقول السارد: «يا للدهشة! أفي كلِ مكانٍ (فكرة)؟ هي في قرى شمال الطائف، وهي في حفلات الرعاة، وراء العدوة القصوى من طريق المعسل، وهي في هذه المروج المتصلة بالطائف القريبة منها هي من بنات هذا الحي وصبايا تلك المنازل، حيث يقيم الرعاة حفلات عرسهم!!». (فكرة ص62). أما في جانب البنية العامة، فإن رواية السباعي، لم تبتعد عما استقر لدى النقاد، حول روايات ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يرى إدوارد سعيد، مثلًا، أن الرواية عمومًا آنذاك، صارت «تقترب من الأشكال السردية التي عرفتها الثقافة العربية سابقًا، والتي يمكن وصفها بأنها بنى سردية مفتوحة، ومختلطة، وغير قابلة للتصنيف الأجناسي، السهل، المؤطر، الدقيق، ومزيجة على مستوى الواقع والخيال، والمعقول والسحري، والشعر والنثر، واللغات والأصوات، والأمكنة والمواقع والمشهديات.. وحضور الرجل وحضور المرأة في المجتمع». (الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبوديب دار الآداب بيروت ط2 1998م. ص 29). ومن اللافت، أن أغلب هذه السمات تنطبق على رواية «فكرة»، في دلالة واضحة على ما سبق أن ذكرته في كتاب «سجال الخطابات»: من أن هذه الرواية فيها وعي واضح» بما استجد بعد الحرب العالمية الثانية من ثورات فكرية على مستوى العالم وتجاوز للسائد الثقافي والالتحام بالطبيعة ولمحات من الواقعية السحرية؛ لخلخلة خطابات الخرافة، والمنظومات التقليدية القديمة». (سجال الخطابات، نادي الأحساء الأدبي، 1429ه، ص 149). ورواية «فكرة» لمن لم يقرأْها، أو قرأها منذ فترة طويلة ونسي تفاصيلها، يقوم الحدث الأساسي فيها على «فكرة»، وهي فتاة بدوية لا يعرفُ أحدٌ أهلها الحقيقيين، عاشت منذ طفولتها المبكرة لدى فقيه إحدى القرى ببادية الطائف، فرباها وعلمها، وحفظت على يديه القرآن الكريم، ثم استزادت علمًا ومعرفة من صديقه الحميم وهو شيخ تركي لديه مكتبة عامرة في مكة، وبعد ذلك سافرت مع الشيخ التركي إلى تركيا وإيطاليا ومصر، وعندما عادت بعد خمس سنوات وجدت أن الفقيه الذي رباها قد مات، فصارت تداوم التجوال في ربوع الطبيعة البكر، تحمل فكرًا نيرًا، وتصدحُ بآراءٍ جريئة لا يفهمها المجتمع المحيط بها، ولكنها ترتع محفوفة بطبيعة أهل الريف السمحة، من جانب، ومن حيرتهم في تركيبة شخصيتها، من جانب آخر؛ فهي بمعاييرهم تتأرجحُ بين الحكمة البالغة، والجنون المطبق. وينهض الخط السردي الآخر على (سالم) وهو فتى حضري مكي يهوى الطبيعة ويتردد على وديان الطائف وجبالها يجول في طبيعتها الساحرة ويستمتع بهوائها العليل ومناظرِها الخلابة ويسري عن نفسه بسبب ما يعانيه من أسئلة وأفكار تملأ رأسه. هذه الهواية المشتركة (التجوال في قرى وجبال الطائف)، جمعت بين (فكرة) و(سالم)، وهو ربط منطقي بين خيوط الأحداث، يزيده عمقًا أن اختيار اسم «فكرة» يتناسب مع الطابع الفكري للشخصية، أما (سالم) فإنه يرمز إلى السلامة، مما التاث به غيره، من تراث التقليد والخرافة. والسباعي اتكأ هنا على (ثيمة) ليست غريبة في تراث مكة تحديدًا، فالناس تاريخيًا كانوا يرسلون أبناءهم إلى بادية الطائف ليرضعوا الفصاحة والطلاقة والحكمة. الجديد هنا أن (سالم) ذهب كبيرًا للبحث عن مرضعة مختلفة تطفئ نهم جوعه الفكري. فعلًا، الأمة بأسرها كبرت وشاخت وتجاوزت مرحلة الرضاعة ولا بد أن تتلفت يمينًا ويسارًا لتبحث عما يصلح شأنها، أليست الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، بدلًا من الجمود المعوق عند سن الرضاعة؟ من هذه النقطة، شرع السباعي في كتابة روايته الوحيدة، وظلت بطلتها (فكرة) من البطلات القليلات اللواتي سميت الروايات باسمهن، مثل: «صالحة» لعبدالعزيز مشري، و»ريحانة» لأحمد الدويحي، و»ميمونة» لمحمود تراوري، و»صوفيا» لمحمد حسن علوان. ومنذ البداية، كان لا بد للسباعي من حيلة سردية، أو تدبير منطقي، لإخراج المرأة من البيت آنذاك، ف «فكرة» أولًا في الريف، حيث تخرج النساء للزراعة والرعي، وثانيًا: هوايتها التجوال في الطبيعة. وثالثا: شخصيتها الواثقة والمغامرة. ومن جهة أخرى، جرى تخليص المرأة في شخص «فكرة» من
محبسها الآخر، الجهل، بما تيسر لها من المعارف والعلوم الدينية والدنيوية. أي أن الكاتب جعل ما ليس طبيعيًا يبدو طبيعيا. وهذه الحيل السردية المتشابكة منحت شخصية «فكرة» ثراء خاصًا، زاده عمقًا أن السباعي، المنحاز بطبيعته إلى الإنسان في إنسانيته، بغض النظر عن جنسه، سعى إلى تحييد مركزية الجسد الأنثوي في الثقافة العامة، وركز على عقل المرأة ومعارفها وأفكارها، فتحرر الكاتب والبطلة معًا من كل دوائر الرقابة الذاتية، والاجتماعية، والسلطوية. عاملٌ آخر ساهم في تمرير شخصية (فكرة) على الرقابة، قام على تغريب شخصيتها وأسطرتها، والأساطير لها سطوة قوية على الذهنية الاجتماعية المحلية، في جانبها الفكري، ولها رصيد في الوجدان الجمعي، وتراث القصص الشعبي، في جانبها الجمالي. وتمثلت أسطرة شخصية «فكرة» في أنها مركبة من عدة شخصيات، فهي «فقيهة القرية»، و»نابغة الجبل»، و»شاعرة تعبد الله.. ليست نبية ولا ناسكة». وهي إلى هذا، متوحدة مع الطبيعة، و»في صوتها هزيم الرعد»، لأنها «بدوية الجبل (التائهة) بين وديان الطائف». وصفة «التائهة» هنا تؤشر إلى أن كل معارفها وأفكارها و»إفلاطونيتها وفلسفتها وكبريائها»، ليست فقط مقومات مهدرة، وتبدو فائضة عن الحاجة في محيطها الاجتماعي، بل إنها في النهاية ستندثر تمامًا بعد اكتشاف شخصيتها الحضرية الحقيقية، وعودتها إلى مكة، ولا يخفى ما في هذا الوضع المعكوس من مفارقة دالة، فالمفترض أن المدينة هي بيئة الوعي. والكاتب احتفظ بلحظة التنوير، وبسر ضياع (فكرة) وهي طفلة، إلى آخر الرواية، فتحقق بذلك عنصران من عناصر الصياغة الروائية، التشويق والصبر. ونعرف اليوم أن نجيب محفوظ في «أصداء السيرة الذاتية» كرر شخصية «فكرة» التائهة في ريف الطائف، من خلال شخصية «عبدربه التائه»، وكهفه الجبلي في ريف مصر. وعندما نقرأ قول المريد لشيخه عبدربه التائه: (أكاد أضيق بالدنيا وأروم الهروب منها). كأننا نستمع (لسالم) وهو يخاطب (فكرة). وحين يقول سارد نجيب محفوظ: (وخُتمت الليلة بغناء جميل، دخلوا قلبي بلا وسيط، أصواتهم عذبة، والمكان جذاب وهادئ، ورائحته زكية). فكأننا نقرأ أقوال السباعي عن أهازيج بادية الطائف وأسمارهم. وعندما يكتب نجيب محفوظ: (في تلك الليلة من ليالى الكهف اشتدت الريح وانهل المطر ولعبَّت دفقات الهواء المتسللة من المدخل، ذؤابات الشمع). فكأنه يكتب مقطعًا من مقاطع رواية «فكرة». أما حين يقول نجيب محفوظ إن: (سيدة المكان كانت تطوف بالموقع، حول الكهف في المواسم)، فإنه يتكلم عن شخصية «فكرة»، بشكل مباشر تمامًا. وأنا هنا لا أجزم، أن نجيب محفوظ اطلع على رواية السباعي، أو تأثر بها، بل أستبعد ذلك، ولكن هذا لا يمنع أن أفكار المبدعين قد تتلاقى هناك في الأوج، في ذرى الإبداع العالية. والفارق الواضح بين رؤية السباعي، ورؤية نجيب محفوظ، هو ذلك الشموخ، والاعتداد بالذات، لدى شخصيات السباعي، والاستلاب، والخنوع، والانجذاب الصوفي، وعدم الجدوى، في علاقة الشيخ (التائه)، بمريديه، في عمل نجيب محفوظ. وهذا الخيال المجنح، في رواية (فكرة)، خلصها من الوقائعية المباشرة، التي طبعت كثيرًا من روايات تلك الفترة، ونجح السباعي في نقل جو الريف، ومزاج أهله، من خلال احتفالاتهم وأهازيجهم، وإن كان أستاذنا الدكتور منصور الحازمي، عندما تحدث عن هذه الأشعار، والأهازيج الشعبية، شكك في أن السباعي، «نقلها نقلًا صحيحًا، وفي قدرته على تلاوتها بلهجتها البدوية الأصيلة، لأن السباعي [كما يقول] حضري مكي، من رأسه إلى أخمص قدميه». (الوهم ومحاور الرؤية ، دراسات في أدبنا الحديث الرياض دار المفردات 1421ه ص 206). وبالرجوع إلى لمقطوعة التي استشهد بها الحازمي - على وجه التحديد - نجد أن السباعي أوردها بشكل صحيح، وهي جزء من قصيدة لمحمد بن لعبون المتوفى (عام 1240ه). ويبدو أن الحازمي لم يطلع على قصيدة بن لعبون، ولذلك قال: أشك أن تكون صحيحة. ومطلع قصيدة بن لعبون: ما طرق فوق الورق يا بن جلق زود كف فوق كف ما يليق كل ما هب الهوى له واصطفق حمله بفراقهم ما لا يطيق (وقصة هذه القصيدة أن بن لعبون كان معتادا على الجلوس عند صديقه (بن جلق) في دكانه ببلدة الزبير في العراق، وصديقه هذا يعمل صائغا لحلي النساء، وحدث أن جاءت فتاة جميلة، وأرخت خمارها لترى الحلي، فبهت (بن جلق) من جمالها، وضرب كفه بالمطرقة وأدماها، فقال بن لعبون هذه القصيدة وهي من عيون الشعر النبطي). والسباعي أورد منها عشرة أبيات، ليس عليها من ملاحظة، إلا بعض الهنات الطباعية المعتادة في الشعر النبطي، وتغيير الرواة في ترتيب الأبيات. ورواية (فكرة)، نشرت قبل صدور ديوان بن لعبون بمدة طويلة، وقبل كتاب خالد الفرج؛ مما يعني أن السباعي، أخذها مشافهة عن أهل البادية. وشرح بعض ألفاظها في هوامش الصفحة. وعلاقة القصيدة بالرواية، أن السباعي هنا، يوظف ما سماه باختين (Mikhail Bakhtin)، بالنصوص المتخللة للمتن السردي، لتأثيث فضاء الحدث، وجعله متناسبًا مع طبيعة الشخصية. ولا يمكن، ونحن نتحدث عن أول بطلة روائية محلية، أن نتجاهل رؤية النقد النسوي، فلعل قائلة تقول بلسان هذا النقد، أن رسم شخصية (فكرة)، جاء بطريقة توحي في ظاهرها، بأنها تسترضي الثقافة الأبوية، بتأكيدها على القيم المقبولة ذكوريًا؛ القوة، والترحال، والثقافة الواسعة، والعفة بالمفهوم الجندري، وهي سمات يرفضها التيار العريض، من حركات النقد النسوي، وخاصة الراديكالية منها، ولكننا نجد، من جهة ثانية، إن بعض الناقدات المعاصرات؛ مثل روبن ليكوف (Robin Lakoff)، تختلف مع هذه الرؤية، إذ ترى أن خطاب القوة، ليس ملكًا للرجل، وأن على المرأة أن تنافس الرجال، وتفكر مثلما يفكرون. ولو علمت (ليكوف) عن شخصية (فكرة) المكتوبة عام (1947م)، لربما نسجت حولها من الأفكار ما يدعم مقولتها. (عن: السرديات النسوية في الرواية السعودية فاطمة فيصل العتيبي، وزارة الثقافة والإعلام، الرياض 2009م، ص27). ولا شك، بعد كل هذا، أن شخصية (فكرة)، شخصية عجيبة في زمنها، ولكن السباعي، مدفوعًا بنزعته المنطقية، أطنب، في سرد سلسلة من الأسباب المعقولة، وإن كانت نادرة، لتبديد الغرابة. وبنفس الآلية، سعى إلى تحقيق هدفه المباشر، وهو تخفيف غرابة تعليم المرأة، في الذهنية الاجتماعية، بجعله أمرًا متداولًا ومعتادًا. وهذه أحد الوظائف الأساسية للرواية، وجزءٌ رئيسٌ، من خطاب السباعي الإصلاحي؛ فالفتاة (فكرة) كما يختم السارد: «فكرة حائرة في الحياة، شاذة عن أوضاعها، ناشزة عن لداتها». وهي بهذا تتطابق تمامًا، مع قضية (تعليم البنات)، في ذلك الوقت، إذ أنها فكرة حائرة، ومحيرة، وشاذة عن السائد، وناشزة عن رأي المجموع. وكان دور الرواية المباشر، كسر الحاجز النفسي في أذهان الناس، عن تعليم المرأة، ومن المعروف، أن تعليم البنات، أقر بعد عشر سنوات، من ظهور الرواية، ولا يمكن القول، أن جهود السباعي بمفردها، هي السبب الوحيد في ذلك، ولكن لا شك، أن مثل تلك الجهود في مجموعها، كان لها سهم وافر، في التمهيد، لصدور هذا القرار. الخاتمة: عمومًا هذه نماذج وأفكار، تدل على أنه بدون الرجوع لمرحلة الرواد، لا نستطيع معرفة تطور الرؤى والمواقف والأدوات. وأن أي بحث، أو تحليل، لا يبدأ من هناك، فهو بحث ناقص، وتحليل قاصر. مسألة أخرى لا تقل أهمية، فمن الواجب أن يكون هدفنا من استعادة آثارهم، هو نفس الهدف، الذي ناضلوا من أجله؛ فقد كانوا يؤمنون، بأن التخلف ليس قدرًا، بل خيارًا بائسًا، في مقابل، خيار الوعي والإصلاح والتنوير. آمل أن تعذروني على الإطالة، لأن الموضوع شيق، ويغري بالاسترسال، ولكنني سأتوقف، حفاظًا على ما تبقى من وقتكم. طبتم وطابت ليلتكم بكل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. * ملخص محاضرة أُلقيت في نادي مكة المكرمة الأدبي يوم الثلاثاء 6 ربيع الآخر عام 1433ه

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.