أكثرت الكتابة عن أبي الوليد ابن زيدون الشاعر المبدع، والناشر النادر، ولامني على ذلك بعض من الأقرباء والأصدقاء قائلين: عندما تغيب عن ابن زيدون برهة من الزمن تعود إلى ذكره والحديث عنه، أو الاستشهاد بشعره أو نثره أوبهما معاً، فما عساي أن أقول لهم وحبل ودي به متين والاستشهاد بشعره فيه متعة وقراءة نثره به لذة. هذا الشاعر الفذ ذاق حلاوة المجد، وذل السجن، فكان ذا الوزارتين كما كان طريح السجن. فقال من المدح والغزل والرثاء أثناء مجده قولاً سارت به الركبان، كما قال في سجنه من الاستعطاف ما ألان قلوب الملوك. وها أنذا أعود إلى ذكره بعد أن استوقفني بعض من أبيات له في قصيدة طويلة أرسلها إلى ولادة بنت المستكفي بعد أن فر من السجن الذي أودع فيه بسبب اتهامه من خصومه بأن طموحه السياسي قد جعله يبدد كيان تماسك الدولة الأموية، وعلى يديه كانت دول الطوائف فكان منه ما كان مع أبي الحزم بن جهور والمعتضد بن عباد ومن بعدهم المعتمد. لقد قال تلك القصيدة المرسلة إلى ولادة والتي يستنهض فيها الأديب أبا بكر للشفاعة له كما يستنزل أبا الحزم بن جهور، وكان ابن زيدون مختفياً بقرطبة فقال: (وبلغني أنك أحد اللائمين لي، ومن أمثالهم) ويل للشجي من الخلي، وهان على الأملس ما لاقى الدبر، وعلمت أن العاجز من لا يستبد، فالمرء يعجز لا محالة، ولم أستجز أن أكون أحد الأذلين - العير والوتد، وهو هنا يشير إلى قول القائل: ولا يقوم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد وهو يريد أن يقول هل تريدونني ثالث الاثنين الجمل الذي يربط من رقبته ويقاد به في ذل وذاك الوتر الذي يضرب على هامته دون أن يتعاطف معه أحد. واسترسل قائلاً: (وتذكرت أن الفرار من الظلم والهرب مما لا يطاق من سنن المرسلين، وقد قال تعالى على لسان موسى عليه السلام: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} فنظرت في مفارقة الوطن، فقديماً ضاع الفاضل في وطنه، وكسد العلق في معدنه، كما قيل: أضيع في معشري وكم بلد يكون عود الكباء من حطبه (الكباء = العود) فاستخرت الله في إنفاذ العزم، وأنا الآن حيث أمنت بعض الأمن إلا أن الغي لم يرتفع، ومادة البغي لم تنقطع. ومن تلك القصيدة قوله: كأن فؤادي يوم أهوى مودعاً هوى خافقاً منه بحيث هوى القرط إذا ما كتاب الوجد أشكل سطره فمن زفرتي شكل ومن عبرتي نقط وقال مخاطباً أبي بكر: هرمت وما للشيب وخط بمفرقي وكائن لشيب الهم كبدى وخط إلى أن قال في حساده وأعدائه: بلغت المدى - إذ قصروا - فقلوبهم مكامن أضغان أساودها رقط يولونني عرض الكراهة والقلي وما دهرهم إلا النفاسة والغمط فررت فإن قالوا الفرار إرابة فقد فر موسى حين هم به القبط سأقف هنيهة عند هذا التنافس المقيت بين ذوي المناصب العليا التي جعلهم يتصارعون للنيل من بعضهم، فهو يريد أن يقول إن تلك الحيات الرقطاء قلوبهم مكامن أضغان وليس من ذنب اقترفته إلا منافستهم لي وتمنيهم نيل ما نلت وهم يدعون أن فراري من السجن يدعو إلى الريبة ويثبت ما يدعون، غير أنه يستشهد بما فعله موسى عليه السلام عندما فر من القبط بعد أن هموا به. هذا النسيج الرائع، والألفاظ الجزيلة، والمعاني العميقة، تدعو إلى الإعجاب بهذا الشاعر الفذ. كما تشير هذه المعاني إلى ذلك التنافس بين الأقران الذي ما زال سائداً عبر مئات السنين، ويبدو أنه سيستمر كذلك ما دام الإنسان موجوداً على وجه الأرض.