الهزلية والجدية رسالتان رائعتان من رسائل ابن زيدون، ذلك الشاعر الفذ الذي ولد في قرطبة سنة 394ه في زمن الدولة العامرية، وقرض الشعر وهو لم يبلغ العشرين من عمره. ويقال: إن ابن زيدون من زعماء الفتنة التي أطاحت بالحكم الأموي في الأندلس، وكذا دولة بني حمود، والعلويين، وقيام ملوك الطوائف على أنقاضهم، وكان ذلك وهو لم يبلغ ثماني وعشرين سنة، ولذا فإن أبا الحزم ابن جهور قربه ومنحه لقب (ذي الوزارتين). وكان بينه وبين ابن عبدوس منافسة مشهورة على ولادة بنت المستكفي، وهي إحدى بنات ملوك بني أمية الذين ضاع الملك من أبيهم، وقد كان لهذه المنافسة أثرها في حياة ابن زيدون. وفي خضم هذه المنافسة أرسل ابن عبدوس إلى ولادة إحدى النساء، لتبين مآثره ومناقبه لتقربه إلى قلبها، فأرسل ابن زيدون إليه برسالة على لسان ولادة ذاع صيتها في الآفاق، وهي الرسالة الهزلية، غير أن ابن عبدوس أخذ يستخدم شتى الحيل للنيل من ابن زيدون، حتى نال مآربه، فأطاح بابن زيدون بعد ان أوغر صدر أبي الحزم بن جهور عليه، فأدخله السجن، فأرسل ابن زيدون بعدة رسائل إلى ابن جهور من السجن يستعتبه ويستجديه، والرسالة الجدية إحدى تلك الرسائل. ولما في هاتين الرسالتين من سبر لأغوار النفوس البشرية، ومحاكاة للعلاقات الإنسانية التي كانت سائدة -وما زالت- لأنها من السمات التي جبل عليها بنو البشر، آثرت أن أقطف من سبكها الرائع ومعانيها الجميلة ما قد يحلو للقارئ أن يقرأ. وفي الرسالة الهزلية يقول ابن زيدون لابن عبدوس على لسان ولادة مستهزئاً: (أرسلت خليلتك مرتادة، قاطعة أنك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال، واستعليت في مراتب الجلال، واستوليت على محاسن الخلال، حتى خيلت أن يوسف عليه السلام حاسنك فغضضت منه، وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت). وهو هنا قد أبرز ما يفتتن فيه النساء وهو الجمال والمال، فلحاه في ذلك مستهزئاً، واستطرد إلى أن قال: (وحتماً إنما جاد بوفرك، ولقي الأضياف ببشرك، وقيس بن زهير إنما استعان بدهائك، وإياس بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك، وسحبان إنما تكلم بلسانك، والحجاج تقلد ولاية العراق بجدك، وقتيبة فتح ما وراء انهر بسعدك، وأفلاطون أورد على أرسطا طاليس ما نقل عنك، وبطليموس سر الاصطرلاب بتدبيرك، وصور الكرة على تقديرك، وبقراط علم العلل والأمراض بلطف حسك، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك، وكلاهما قلدك في العلاج، وسألك عن المزاج، واستوصفك تركيب الأعضاء، واستشارك في الداء والدواء). إن ما ذكره ابن زيدون على سبيل التهكم، يجعل المرء ينظر حوله فيحجم عما قد يدغدغ مشاعره من صفات يسديها إليه البعض، فيرى فيها حقيقة ذاته دون أن تكون واقع حاله. وقد يبلغ المرء في الاعتقاد فلا يلبث ان يصاب بخلاف ما يعتقد، فيكون الأثر أمرّ والمصيبة أرزأ. واسترسل ابن زيدون وأخذ ينعت ابن عبدوس على لسان ولادة بأقبح الخصال وأذم الخلال، فحسبك به قائلاً: (هجين الغذال، أرعن السبال، جافي الطبع، سيء الجابة والسمع، بغيض الهيئة، سخيف الذهاب والجيئة، ظاهر الوسواس، منتن الأنفاس، كثير المعايب، مشهور المثالب، فوجودك عدم والاغتباط ندم، والخيبة منك ظفر والجنة معك سقر، وهل أنت إلا واو عمرو).. هكذا كاد ابن زيدون لابن عبدوس ولحاه بما لا يليق به، لكن المنافسة غير الشريفة تدفع بذوي العقول الناقصة الذين تكون الغاية لديهم تبرر الوسيلة، بأن يقولوا ما يشاؤون ويفعلوا ما يحلو لهم، دون وزاع من دين، أو حياء من خلق. وفي الرسالة الجدية انقلب السحر على الساحر، فأخذ ابن زيدون يستجدي ويستطلب، ويروم ويملق، لعل ابن جهور يرضى عنه بعد ان أودعه السجن، وفيها يقول: (إن سلبتني - أعزك الله- لباس نعمائك، وعطلتني من حلى إيناسك، وأظمأتني إلى برد إسعافك، ونقضت بي كف حياطتك وغضضت عني حمايتك، بعد ان نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك، وأحس الجماد باستحمادي إليك، فلا غرو قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتي الحذر من مأمنه، وتكون منية المتمني في أمنيته، والحين قد يسبق جهد الحريص. وإني لأتجلد وأرى الشامتين أني لريب الدهر لا أتضعضع، فأقول هل أنا إلا يدٌ أدماها سوارُها، وجبينٌ عضَّ به إكليله، ومشرَفِيٌّ ألصقَ بالأرض صاقِلُه). واستطرد في الاستجداء لعل أبا الحزم بن جهور يرضى عنه، فيقول: (ولن يريبني من سيدي إن أبطأ سَيبُه أو تأخر -غير ضنين- غناؤه، فأبطأ الدِّلاء فيضاً أملؤها، وأثقلُ السحاب مشياً أحفلها، وأنقع الحياء ما صادف جدباً. وألذ الشراب ما أصاب غليلاً، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، وأعود فأقول: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك، والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك، ولا أخلو من أن أكون بريئاً، فأين العدل؟ أو مسيئاً، فأين الفضل؟). هكذا كانت الرسالة الجدية مليئة بالعبارات الرائعة التي تحكي ألم المظلوم وإن كان كذلك، أو النادم إن كان مذنباً، والعفو سمة عربية حث عليها الإسلام فأصبحت من أخلاقه، والتسامح صنو العفو، وكان هذا ديدن الكثير من ذوي المروءة والنبل، ولعلها صفة يمتاز بها العرب عن سواهم، ونبل خصهم الله به وكان وسيظل نبراساً للمعالي، ما أخال أبا الوليد بن أبي الحزم بن جهور إلا وقد بلغت منه هذه الرسالة التي أرسلت إلى أبيه كل مبلغ، فما لبث أن أعاد ابن زيدون إلى سابق عهده ومجده، بمجرد أن تقلد الأمر بعد أبيه، وهي الأيام عبر تمر على الفتى يسطرها التاريخ ليتعظ ذوو الألباب، وتمر مر الكرام على ذي العقول المريضة.