لكي نتحاور مع الآخر ويتحاور معنا الآخر بفعالية تحقق غاياتنا وتطلعاتنا جميعاً، يتعين على كلٍ منا أن يتوفر على قدر كافٍ من الإيمان بحتمية أو على الأقل بضرورة الحوار مع الآخر، بغية الظفر بنوع من تصالح الأرواح أو الأفكار أو الأجساد أو المصالح. كما يتوجب على طرفي الحوار أن يُكِّنَ كل منهما للآخر احتراماً باعتبار إنسانيته، وحقه المطلق في الوجود والعيش وفق منظوره ومزاجه الخاص. ونواصل تحليلنا لمقومات الحوار مع الآخر، بالمنظار الحضاري، عبر تكثيف الحديث عن مقوم آخر للحوار. المقوم الثالث: روح علمية نقدية منصفة لعله من المسلَّم به أنه كلما ازدادت درجة اختلاف أو تناقض أو تضاد الإطار الثقافي الحضاري لطرفي الحوار، اشتدت الحاجة إلى وجود ممارسات نقدية شاملة، ممارسات تلامس مصادر التضاد ومكامن الخلل وبؤر الخلاف وبواعث الصراع لدى الطرفين معاً، حيث يؤذن انعدام ذلك اللون من النقد أو ضعفه بتوجيه الحوار ودفعه إلى اتجاهات وسياقات خطرة؛ في أجواء ملبّدة باللاثقة واللاعقلانية واللانفتاح واللايمان بمجرد عقد جولات حوار مع الآخر! وثمة مزايا ثلاث يجب أن تتسم بها تلك الممارسات النقدية هي: المنهجية العلمية، والروح المنصفة، والمزاج أو النظرة المعتدلة لمن يباشر عملية النقد، إذ لا يصلح أي ينبري أي مثقف لممارسة النقد في فضاءات ثقافية تتضمن أطراً عقدية وفكرية وقيمية ومصطلحات ومفاهيم وعلاقات على درجة كبيرة من التعقيد والتشابك والجدلية. إذن ثمة ما يدعونا إلى تشديد القول على أن حواراً كالذي وصفناه آنفاً، يفتقر بشكل دائم إلى نوع خاص من المثقفين والمفكرين والفلاسفة، يتميز كل منهم بأنه معبأ بالمنهج، ومتدثر بالإنصاف، ومطبوع بالاعتدال تجاه كل شيء، معتدل حيال ذاته وحيال الآخر، رائده وغايته ووجهته الحق والحق وحده. نعم يبقى بشراً كغيره من البشر الذين يتطلعون إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح والمغانم لمجتمعه في ساحة الحوار التثاقفي، ولكن بمقومات المنهج وقيم البحث وصرامة النقد وعمق التأمل وأناقة الحوار وأخلاقياته. العرب والغرب.. من اسم المفعول إلى اسم الفاعل! بإزاء النقد الثقافي الحضاري للرواق العربي الإسلامي فيما يتعلق بمسألة الحوار مع الآخر وغيرها من المسائل، هنالك وقفة مهمة مع بعض المثقفين والمفكرين العرب، حيث يجهد بعضهم إلى ممارسة نقد صارم داخل أروقة الثقافة العربية الإسلامية - وهو أمر متعين عليهم ضمن ضوابط المنهج كما سبق بيانه-، مع تجاهل شبه تام لأهمية العمل النقدي وبنفس الدرجة من الصرامة لثقافة الآخر، بحجج واهية فلسفياً ومنهجياً، مفادها أننا كمثقفين ومفكرين عرب يجب أن ننشط في عمليات النقد داخل نطاق ثقافتنا ونترك المجال لمثقفي ومفكري الطرف الآخر لممارسة نقدية داخل نطاق ثقافتهم، بل يذهب بعض المثقفين العرب أبعد من ذلك ويتطرف حين يقرر أن الإنسان العربي يعاني منذ زمن بعيد من ارتباط فكري سلوكي وبشكل مرضي بأمجاد وبطولات الماضي وتطبيقات الأسلاف وأنماط حياتهم وأمزجتهم الخاصة، كل هذا يؤدي من وجهة نظر أولئك المثقفين إلى نوع من التشبع المعرفي والانغماس الوجداني في إطار الماضي والأسلاف، مما يثمر لديهم زهداً بالحوار التثاقفي مع الآخر وبالذات مع الطرف الغربي، الأمر الذي يصد - في نظرهم - قطاعاً عريضاً من العرب من الإفادة الذكية من الآخر في الجوانب العلمية والثقافية والتقنية والاقتصادية والسياسية. ومع تقريرنا لصحة التشخيص السابق لدى بعض الشرائح في العالم العربي، إلا أننا نبادر بالقول بأن النتيجة التي خلص لها أولئك المثقفون غير منطقية البتة والتي تتمثل في أن الممارسة النقدية المنهجية للآخر تجعل تلك المشاكل تكبر كما كرة الثلج المتدحرجة... لماذا ؟ لأنها تنقلنا - كما في تصورهم - في حلقة دائرية دؤوبة إلى تضخم شديد للأنا وتآكل مخيف للآخر... ومن ثم انعدام الحوار وتلاشي التثاقف ! أو يظن أولئك المثقفون أننا سطحيون إلى هذه الدرجة! هل يقتضي نقدنا للآخر بالضرورة أن نزهد فيما عنده من الحق والعلم والتفوق؟ ما دليل ذلك؟ أو يحكم علينا إذن زوراً وتخرصاً من خلال سلوك انسحابي وتصور سطحي قد يصدر من بعض شرائح البسطاء عندنا من جراء نقدنا للآخر؟ هل العبرة في سلوكيات وتصورات أولئك البسطاء أم بصنّاع الفكر ومشكلي الرأي العام في عالمنا العربي والإسلامي؟ ألا تسعنا المنهجية العلمية التي تشدّد على ضرورة النقد للمشهد الثقافي بكامل تفاصيله ومنعطفاته؟ وأسئلة كثيرة نحسب أن أولئك المثقفين لا يدرون لها جواباً وربما قد لا يتصورنها أصلاً! وقد يكون مفيداً أن أدوّن تجربة شخصية في هذا الاتجاه، حيث قال لي أحد المفكرين العرب يوماً من الدهر بعد أن أخبرته بعزمي على نقد بعض أطر الثقافة الغربية مع تركيز الممارسة النقدية على الجوانب الابستمولوجية والفلسفية لخطورتها وتأثيرها على بقية الجوانب، قال لي وبالحرف الواحد: أرجوك!.. لا تفعل... واستطرد قائلاً: نحن في غنى عن كل ما يزهّدنا بالحوار العقلاني والتثاقف التنويري مع الفكر الغربي خصوصاً... ومضى يقول وبنبرة حادة: دع الثقافة الغربية لأهلها... فهم جادون ودقيقون وعميقون في نقدها... كأنما يريد هذا المثقف وغيره أن يقولوا أما يكفيكم - مثلاً- فردريك نيتشه، وجورج برنارد شو، برتراند رسل، ونعوم تشومسكي، وجورج جلوي.. وأضرابهم كثير!... دع عنك الثقافة الغربية وتعال بنا نعري أوجه التخلف في ثقافتنا ونجلّي عيوبها ونبيّن عوارها... وحتى لا يعترض علينا أحد بأن ما أوردناه هنا لا يعدو أن يكون حادثة فردية وربما حالة شاذة لا ترقى إلى درجة التعميم في قضية شائكة كهذه، وهو اعتراض منهجي سائغ، من أجل دفع ذلك الاعتراض المنهجي نلفت الانتباه إلى ظاهرة ملموسة في الفضاء الثقافي، وهي ظاهرة أحسب أننا نتفق على وجودها وإن اختلفنا حول مستوى تواجدها. إنها ظاهرة تجنب وإحجام جملة المثقفين العرب من دخول ساحة النقد لثقافة الآخر للأسباب التي ذكرناها آنفاً ولغيرها، ويتمظهر ذلك الإحجام في ندرة الدراسات والإسهامات العربية النقدية المنهجية حيال ثقافة الآخر لا سيما في أطرها الابستمولوجية والفلسفية وانعكاساتها الأخلاقية، عدا محاولات قليلة يغلب على بعضها الطابع العاطفي الأدبي أكثر من الاعتبارات المنهجية العقلانية. وفي مقابل إحجامنا وترددنا نحن في الولوج إلى ثقافة الآخر، نشهد ومنذ زمن بعيد هرولة غربية ونسمع جلبة الحركات النقدية للثقافة العربية الإسلامية، تمخض عنها إنجاز نقدي غربي ضخم لثقافتنا يتمثل في مئات الأبحاث والدراسات والرسائل العلمية والكتب والمجلات، بل وصل بهم الحال إلى تخصيص مراكز وكراسي أبحاث متخصصة في جامعاتهم المرموقة للثقافة العربية الإسلامية (أنظر مثلاً مركز اكسفورد للدراسات الإسلامية والذي استقبل مؤخراً مليون ونصف المليون جنيه إسترليني من أحد القادة العرب) مع تشجيع أطياف مختلفة من الباحثين على استخدام المنهج النقدي، مما جعل الغربيين يمتلكون عدسات وقياسات يبصرون بها ويقيسون من خلالها ثقافتنا وبشكل تفصيلي، في حين لا نكاد نجد مركزاً أو كرسياً بحثياً واحداً يهتم بالثقافة الغربية في جامعتنا، ولذا فلا غرابة البتة من عدم امتلاكنا لعدسات ثاقبة أو قياسات دقيقة للثقافة الغربية. وهذا يدعو كما يقول الدكتور حسن حنفي إلى ضرورة تأسيس علم الاستغراب الذي يحيل الغرب من ذات دارس إلى ذات مدروس، ويحيلنا نحن إلى ذوات دارسة (مقدمة في علم الاستغراب، 23-28)، ويستطرد حنفي - في رأي له وجاهة كبيرة - بأن ذلك يعين على فك عقد النقص لدينا كما يخلص الآخر من مركّب العظمة، كما يؤدي إلى إرجاع الثقافة الغربية إلى حدودها الجغرافية والتاريخية الطبيعية!، وفي حال تقرر ذلك أو شيء منه يحق لنا أن نتساءل: هل نتجاسر ثقافياً وسيكولوجياً في المدى القريب لكي نظفر ب(اسم الفاعل بدل اسم المفعول)... دارس بدل مدروس ؟! وهذه القضية تستحق منا ومن غيرنا وقفات بل دراسات منهجية جادة وبمداخل متعددة تمكّننا من اختبار نتائجها وعرض بعضها على بعض وفق القواعد المنهجية. وتأسيساً على ما سبق، يمكننا إدراك جانب من الخلل المنهجي لدى بعض المثقفين والمفكرين العرب، حيث أنهم يغفلون عن قضايا منهجية كثيرة، منها أن العمل النقدي في فضاءات التثاقف الحضاري بين أطراف الحوار لا يمكن له أن يكتمل ولا أن ينجح إلا بتوفر إطار نقدي مفاهيمي متكامل يجمع أشتات الصورة ويؤلف بينها بشكل منهجي، ليثمر ذلك العمل النقدي عن تصور شامل لأوجه الخلل في ثقافة الطرفين معاً، وتحديد دقيق لمتطلبات الإصلاح والصيانة الثقافية المتعين تنفيذها لدى كلا الطرفين كشرط أو تهيئة لاستمرار أو بداية الحوار... ويقتضي هذا أن نمارس نحن نقداً منهجياً للآخر كما يمارس الآخر نقداً منهجياً لنا... ليجلب كل منا نتائجه وفرضياته ومزاعمه مدعومة بالحجة الفلسفية والبرهان العقلي والدليل التجريبي، لنفي نحن وهم بمقومات ومنطلقات الحوار الفعال المتصف بالمنهجية علنا بذلك نفلح في صبغ تثاقفنا بالصدق والبحث عن الحقيقة والعدل والتكافؤ والاحترام والرحمة. * كاتب وأكاديمي سعودي