الإنسان حينما َيْفتَقِدُعزيزاً أو قريباً، فإن حزنه يشتد كثيرا، ويطول مكثه في طوايا نفسه أمداً بعيداً، وخاصة رفاق الطفولة والصغر، حتى صورهم تظل ماثلةً ما تبرح مخيلة المرء طيلة عمره..، لصفاء قلوبهم وبراءة عواطفهم مع قوة التآلف فيما بينهم، وهي من فطرة المولى التي أودعها في كثير من خلقه..، كما لنا مع الشيخ الكريم محمد بن ناصر الجماز - أبو عبد العزيز - رحمه الله - ذكريات جميلة لا يتسع المجال لذكرها، وكنا نقضي معظم سحابة يومنا في مدارس الكتّاب لتعلم القراءة والكتابة في الألواح الخشبية، وقراءة القرآن الكريم وحفظ ما تيسر منه، فالبعض يختمه حفظاً كاملاً، فيكرم من قبل أهله تقديراً له وتشجيعاً لأقرانه..، وحرصاً من الآباء ليسكن القرآن العزيز في صدور أبنائهم. ولقد ولد الشيخ محمد بن ناصر بن عبد العزيز الجماز في بلد والديه (حريملاء)، ونشأ بداية حياته في ربوعها مهوى رأسه وأخوه الكريم عبد الله، وشقيقاته الفضليات، وكان يتصف بالنشاط والحيوية، لطيف المعشر مع إخوته وأقرانه، بارا بوالديه, وكان أول شبابه ملازما لوالده الموصوف بالحِنكة وبُعد النظر ونفاذ البصيرة والهيبة في شخصه وكرم خلقه، مما اكسب ابنه محمد الكثير من صفاته حنكة وتواضعا، ودراية بأحوال الناس وطبائعهم..., وكأن محمد (أبو عبد العزيز) قد استحضر رائحة معنى هذا البيت الذي ينصح قائله بمصاحبة الرجال ذو العقول والآداب: ثم رحل إلى مدينة الرياض مبكرا للأخذ بأسباب طلب المعيشة معتمدا على الله غير معول على أحد فتوظف في البداية كاتبا في أحد فروع هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التي كان يرأسها فضيلة الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ براتب زهيد جداً....., رحم الله الجميع، فلم يتوقف عند هذا الحد، بل أخذ يبيع ويشترى في بعض الأشياء التي لا تلزمه باستئجار محل.. مثل حضوره قُبيل صلاة الفجر حراج التمور في مواسم الرطب، وبعض الفواكه والخضار، فيصفيها قبل ذهابه إلى مقر عمله، كما يفعله الآن بعض متوسطي الدخل وهذا عمل محمود: ويقال إنه اشترك مع أحد الأشخاص في شراء مزرعة بالخرج لتسويق إنتاجها بمدينة الرياض، فهو رجل عصامي صدوق كافح كفاحاً متواصلاً لا يضارعه أحد حسب قوله وعلمي به..., «تغمده الله بواسع رحمته». وعندما توفر عنده شيء من المال فكّر هو وقريبه الشيخ عبد الله بن إبراهيم الراشد «رحمهما الله « والشيخ الفاضل حمد بن محمد بن سعيدان في استئجار محل صغير في جنوبالرياض للعقار، ثم انتقلوا من مكان إلى آخر حتى نمت تجارتهم واستقروا في مكتب كبير على مقربة من شارع الخزان بوسط الرياض، أطلقوا عليه اسم (مؤسسة بدر العقارية) التي تعد من أكبر المؤسسات العقارية بالمنطقة الوسطى آنذاك. - وعندما اتسعت اتساعا ملحوظا ودرت عليهم الدنيا بأخلافها أموالا طائلة، من مكاسب المخططات الواسعة السكنية والتجارية معا، وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده - استأذن شريكهما الشيخ الحبيب حمد بن محمد السعيدان - أبو هشام- بأن يستقل وينفصل عن مؤسستهم، فكان له ذلك بنفوس طيبة وقسمة عادلة، وقد ازدهرت حالهم المادية ازدهاراً منقطع النظير، مع كثرة المساهمين معهم في مخططات متعددة في كثير من المواقع لثقتهم وصدقهم وحسن تعاملهم مع الجميع..., وقد نالت المؤسسة من الشهرة والسمعة الحسنه الطيبة، مما جعل الكثير من المواطنين يتدافعون للشراء والمساهمة بها، ولكن سرور الدنيا لا يدوم أبداً وأن مد في وقته ما دام هادم اللذات وراء كل حي، فمنذ وقت ليس بالبعيد اخترمت يد المنون إلفه وشريكه الحبيب الشيخ عبد الله بن إبراهيم الراشد - أبو إبراهيم - وفى يوم السبت القريب 29-6-1436ه لحق به الشيخ محمد - أبو عبد العزيز- حيث صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها بألمانيا بعيداً عن أهله وعن موطنه، وصدق الله العظيم في قوله آخر سورة لقمان (وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) (34): وقد أحضر بطائرة خاصة من ألمانيا وأديت عليه صلاة الميت بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 2-7-1436 ه بجامع الملك خالد بأم الحمام، وورى جثمانه الطاهر تحت طيات الثرى بمقبرة (صفيه) بمحافظة حريملاء تغمده الله ((بواسع رحمته ومغفرته) وقد خيم الحزن على أجواء محافظه حريملاء لفقد ابنها البار كثير النفع لها ولأبنائها، كما حزن من تبقى من أقرانه ولِداته وجميع محبيه على فراقه وبعده عن نواظرهم : وقد ساهم بسخاء في دعم المؤسسات والجمعيات الخيرية، وبناء المساجد والمساهمة في بناء قصر الجماعة، مع عمله قاعه كبرى في جانب القصر للاحتفالات والمناسبات المتعددة مع تبرعه للاستخدام بعض مبانيه مثل المركز الصحي آنذاك المخصص للإسعافات الأولية عدداً من السنين قبل افتتاح المركز الجديد الحالي، ومكتب للجنة الأهلية وغير ذلك من المساهمات المباركة المتعددة في حريملاء وفى غيرها من البلدان الأخرى، ومن أفضل ذلك توزيعه ثمار نخيله عند بدأ صلاحها التي يربو عددها على أكثر من خمسة مواقع هدية وصدقة لمستحقيها كما يتلمس حاجات بعض الأيتام والأرامل قرب حلول شهر رمضان فيمنحهم الخير الوفير من الأرزاق والمشروبات الرمضانية، مع شراء بعض المساكن للأرامل والأيتام في حريملاء وغيرها من الأماكن..., ويحرص كل الحرص إن تحاط بسرية لا يعلمها إلا خالقه جل ذكره، وعندما اشتد به المرض و انتقل إلى العلاج بألمانيا بصحبة بعض أبنائه ووالدتهم الوفية - أم ريان-، أخذ عدد من أبنائه وبناته وبعض أحفاده يتناوبون الزيارة له للاطمئنان على صحته وكان آخرهم ابنته الكبرى - أم رائد - زوجة ابني الأكبر محمد وذلك قبيل رحيله بأيام قلائل، وكأني بها قد أحست بدنو أجله عند مغادرتها لوالدها تحاول أن تكرر نظراتها نظرات وداع وحزن وأسى. مستحضرة هذا البيت في نفسها: كان الله في عونها، وعون جميع الأسرة. رحم الله أبا عبد العزيز وأسكنه فسيح جناته وألهم أبنائه وأخاه عبد الله وبناته وعقيلته أم ريان وجميع محبيه الصبر والسلوان. - عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف