يصعب أن تصدر عن جماعة «الإخوان المسلمين» السوريّين، أو عن غيرهم، وثيقة أفضل من تلك التي أذاعوها أمس الأوّل. إنّها، كما يقول تعبير إنكليزيّ، أكثر جودة من أن تكون حقيقيّة. وحين يشرحها ويدافع عنها، على شاشة قناة «العربيّة»، رجل محترم ومتواضع كعلي صدر الدين البيانوني، فإنّه يضفي عليها مزيداً من الصدقيّة. تلك الوثيقة تتويج لوجهة بدأت في 2001، بُعيد تولّي بشّار الأسد السلطة، وهي وجهة دلّت قي مسارها المديد نسبيّاً إلى براغماتيّة «الإخوان» السوريّين، لا بوصف البراغماتيّة ضعفاً في القيم، على ما قد يظنّ البعض، بل بوصفها ضعفاً في الإيديولوجيا. وضعف كهذا هو ما يتيح لأصحابه أن ينحازوا إلى الواقع وإلى الوقائع، وأن يتعلّموا من التجارب والإخفاقات، ملاحظين، في الآن عينه، التحوّلات التي تهبّ عليهم من حولهم وتعمل على تكييفهم. فكأنّنا، بالتالي، حيال انقلاب بارز تباشره مدرسة عريقة في المعتقديّة الإيديولوجيّة على ذاتها الجامدة. وبالفعل بتنا أمام أرقى وثيقة ينتجها «الإخوان» العرب من دون استثناء، تصدر عن أكثر «الإخوان» العرب تأثّراً ب «الإخوان» الأتراك من جماعة «العدالة والتنمية». فما أغضبَ «إخوان» مصر ممّا قاله لهم رجب طيّب أردوغان حين زارهم، حوّله إخوان سوريّة إلى مبدأ مُتبنّى ومدافَع عنه. وإذا قيل إنّ «الإخوان» التوانسة، في حركة «النهضة»، هم الأشدّ استماعاً إلى نبض العصر، وإنّ قائدهم راشد الغنّوشي الأكثر استنارة بينهم، فهذا ما خطّأته الوثيقة الأخيرة التي خلت من الغمغمة التونسيّة في ما خصّ الشؤون الأكثر إلحاحاً. فهي قطعت مع الغموض في ما خصّ الديموقراطيّة وحقوق النساء والأقليّات الدينيّة والعرقيّة. وإذا جاز لنا أن نتفاءل بمستقبل للإسلام السياسيّ العربيّ، ينتقل معه إلى ما يشبه الديموقراطيّة المسيحيّة في أوروبا، جاز اعتبار تلك الوثيقة عملاً تأسيسيّاً، أو استباقاً أوّليّاً، لا سيّما لجهة التكامل الذي انطوت عليه بين الخلفيّة الدينيّة لأصحابها وبين الجهر بالدعوة المدنيّة الديموقراطيّة. وفضلاً عن طمأنة الأقليّات والمرأة، تضعنا الوثيقة أمام مدخل لصياغة الوضع المستقبليّ لسوريّة ولرسم صورة البدائل المطلوبة. وهو ما قد يعزّزه إصدار مؤتمر إسطنبول إعلاناً دستوريّاً لم يعد تأخيره مجدياً ولا مقنعاً. وهذا إلى جانب الإلحاح الذي يفرضه التردّي المتسارع للعلاقات الأهليّة في سوريّة تحت ضغط العنف الرسميّ المنفلت من عقاله وما يستجرّه من ردود ثأريّة. ولا بأس، هنا، بالإشارة إلى البيئة الحاضنة للوثيقة والمتشكّلة أساساً من مناخات ثورة مديدة ومكلفة تعجّ بالعِبر والدروس بقدر ما تضجّ بالمخاطر. وقد أضيف إلى هذا ردٌّ «إخوانيّ» نبيل على تاريخ القهر والمظالم الذي تعرّض له «الإخوانيّون»، وفهمٌ ضمنيّ رحب لتعدّديّة المجتمع السوريّ وللآفاق التي يمكن للتعدّديّة هذه أن تُصرّف فيها. بطبيعة الحال فإنّ الذين لا يريدون أن يطمئنوا، في سوريّة (ولبنان) والعالم الأوسع، لن يجدوا ما يطمئنهم، لا في هذه الوثيقة ولا في غيرها. لكنّ ذلك ينبغي ألاّ يردع «الإخوان» السوريّين عن متابعة طريقهم إدانةً لكلّ ممارسة طائفيّة، كبيرة كانت أو صغيرة، وتمايزاً عن كلّ توسّل متعصّب للإسلام. ذاك أنّ الممارسة اختبار الوثيقة الأخير.