يبدو أن كل الناس، في العالم العربي على الأقل، آمنوا بأننا دخلنا عصر الصورة بدلاً من عصر المذياع، ولا سيما بالنسبة الى العروض الرياضية، باستثناء فئة من البشر شديدة الخصوصية، شديدة الغرابة، يحدث لها في بعض الأحيان أن تثير رعب المتفرجين وتباغتهم من حيث لا يتوقعون. هذه الفئة هي فئة المعلقين الرياضيين الذين يقومون بمهمة شديدة الغرابة بدورها، هي التعليق على المباريات الرياضية عبر شاشات التلفزة، وفي شكل أكثر خصوصية، التعليق على مباريات كرة القدم. الواحد من هؤلاء يبدأ مشكوراً، بوصف ما يحدث على الشاشة أمام عيون ملايين المتفرجين. يصف تحديداً ما يشاهده هؤلاء الناس، غير آبه بأن الصورة تنقل تماماً، ما يقول.. وبسرعة تفوق سرعته. ويبدو أن هذا الشخص لا يصدق أن الناس، كل الناس، يشاهدون ما يشاهد وفي الوقت نفسه. وأنهم متحمسون لما يشاهدون، ولهم عواطفهم وتفضيلاتهم، التي لا تقل أهمية ودراية عن عواطفه وتفضيلاته. في اختصار يبدو صاحبنا وكأنه لا يثق بهم على الإطلاق. وفي لحظات حاسمة من المباراة، لحظات تسجيل هدف في مرمى ما، أو لحظات محاولة تسجيل فاشلة. وفيما يكون المتفرجون في صدد تجميع أفكارهم لتأييد ما حدث أمامهم، أو شجبه، يقوم صاحبنا بالزعيق. زعيق غير انساني، غير متوقع، غير محتمل، غير مهذب. ويواصل زعيقه وكأن ميتاً مات له، أو كأنه في حالة معاكسة يزغرد لابن له تزوج. وهو يمط زعيقه بأشكال متنوعة. وقد يحدث له أحياناً في لحظة غضب أن يصب جام لعناته على هذا اللاعب أو ذاك. أما في لحظات السرور فحدث ولا حرج. فهو يبدو وكأن المباراة مباراته وأنه هو وحده المعني بما يجري. يطلق زعيقاً متتالياً وكأنه أسد غابة يفرض سلطانه على بقية حيواناتها. ولعل أطرف ما في الأمر أن صاحبنا هذا يبدي العواطف نفسها. وبالتالي الزعيق والزئير نفسهما في كل الحالات، سواء كان الهدف لهذا الفريق أو لخصمه. والاخفاق لفريق أو لآخر. عواطفه هي نفسها دائماً وزعيقه هو نفسه.. ودائماً عنده أمل كبير بأن تكون تعبيراته هذه معدية بحيث تصل الى المتفرجين الذين من الواضح أنهم هدفه الأول والأخير، وأن كل ما يجود به من زعيق إنما هو موجه اليهم. في الحقيقة كل هذا كان يبدو منطقياً بعض الشيء ايام الراديو، حين كانت المباريات تنقل سمعاً على الهواء فيكون للسيد المعلق دور أساس في اطلاع المستمعين على ما لا يتمكنون من مشاهدته وبالتالي اثارة حماستهم. أما اليوم في زمن التلفزة، حيث كل شيء مصور ويصل الى كل بيت، لا شك في أن المراقب المحايد، الذي لا يفهم في هذه الأمور كثيراً، يحق له أن يتساءل: لماذا كل هذا الزعيق... الذي قد يصيب الناس بأزمة قلبية أحياناً؟