لم تبدأ مشكلة المياه في قطاع غزة مع إقامة السلطة، وإنما ازداد شعور سكان القطاع بأزمة المياه بعد إقامتها، على رغم أن اتفاقات أوسلو فتحت كوة من الضوء على هذه الأزمة الخطيرة الكامنة كوحش يتربص للانقضاض على فريسته. في اتفاقات أوسلو التزمت إسرائيل تزويد قطاع غزة خمسة ملايين متر مكعب من المياه العذبة، إلا أن هذا الاتفاق لم ينفذ، حاله كحال معظم بنود هذا الاتفاق الذي نعي فور ولادته، وكانت حجة إسرائيل في عدم الالتزام بذلك طوال 7 سنوات أنها تريد مكاناً مختلفاً تصب فيه هذه الملايين الخمسة من المياه العذبة. علماً أن نحو مليون متر مكعب من هذه الملايين الخمسة من المياه كان يذهب لمصلحة مغتصبيها في القطاع. وقبل ستة أشهر فقط استعدت إسرائيل لاستئناف تزويد القطاع بهذه الملايين الخمسة من المياه على أن تقوم دولة السويد بدفع ثمنها، ما يهدد استمرار تزويد إسرائيل للقطاع بها في حال توقفت السويد عن تحويل أثمان هذه المياه إليها. وبعد طول عمل، تم تجهيز الخزانات المائية التي ستستقبل هذه الملايين الخمسة من المياه العذبة على طرفي الحدود في منطقة المنطار، ولم يبق إلا إقامة الخط الناقل بينهما وطوله نحو 150 متراً يحول دونه كثير من المخاوف الأمنية. غني عن القول إن أبرز مصادر المياه في قطاع غزة الذي يستهلك نحو 120 مليون متر مكعب من المياه، 50 مليوناً منها لأغراض الشرب هي: خمسة ملايين متر مكعب من شركة ميكروت الإسرائيلية، وآبار المياه التي تقوم البلديات بحفرها. وهنا تحديداً تكمن المشكلة، فقطاع غزة فرشه أهله بثوب مطرز بعدد كبير وغير معروف من الآبار الجوفية التي تستعمل لأغراض متعددة أبرزها الزراعة. وقد أثرت في كمية هذا المخزون الجوفي من المياه العذبة وجودته بضعة عوامل أبرزها: قيام إسرائيل بحفر آبار عميقة تسمى بالمصائد المائية على الحدود الشرقية للقطاع للحد من تدفق المياه الجوفية الآتية من الأنهار تحت الأرضية الشرقية، وعشوائية حفر الآبار والإسراف في الاستهلاك. كل ذلك أدى الى نقص منسوب المخزون الجوفي، ما شجع مياه البحر المالحة على التسلل الى هذا المخزون ليعوض النقص الكبير في المياه العذبة جراء قلة المياه الوافدة من الشرق، وهذا ما بدأنا كسكان نعانيه حيث نشعر وكأننا نشرب أو نستعمل مياه البحر. وكلنا بات يدرك أن أكثر مناطق القطاع ملوحة في المياه هي المناطق الشرقية، فيما أن أكثر المناطق عذوبة هي شمال القطاع ومنطقة الزهراء في الوسط وما يجاورها مما كان يعرف بمغتصبتي نتساريم وموراج، إضافة الى مواصي رفح. وفي ملاحظة على هامش المعلومات، نشير الى أن إسرائيل هي من يدفع بقوة على نقل أحواض المجاري من القرية البدوية شمال القطاع الى مناطق مرتفعة شرق غزة، ليس خوفاً من فيضان المجاري مرة أخرى، ما يهدد بغرق بيت لاهيا وجباليا، وإنما خوفاً من تسرب مياه المجاري الى مخزونها الجوفي من المياه العذبة. وللتخفيف من حدة ملوحة المياه شرق غزة عملت بلدية غزة على استقدام مياه عذبة من شمال القطاع، إلا أن هذه المياه لا تصل لأن لصوص المياه يقطعون طريقها كالعصابات ويحولونها في شكل غير قانوني ولا أخلاقي نحو مزارعهم ومصالحهم الخاصة. كل المعطيات السابقة تشجع الخبراء على التحذير الجدي من أزمة مياه كبيرة تهدد مياه الشرب في القطاع بعد عدد قليل من السنوات، ليس لغزو مياه البحر مياه القطاع الجوفية فقط، بل لأن النقص الهائل في المخزون الجوفي سيشجع مياه الصرف الصحي على تتبع أثر مياه البحر وتلويث كل المخزون الجوفي. لذلك ينصح عدد من الخبراء بإقامة محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي وجعلها صالحة للشرب أو على الأقل تحويلها الى الزراعة، أسوة بسكان لندن التي يشرب سكانها مياه الصرف الصحي المعالجة عوضاً عن مياه نهر الراين الملوث بمخلفات المصانع الكيماوية. علماً أن إسرائيل عرضت على السلطة في أواخر التسعينات إقامة محطات تحلية مجانية لمياه البحر، إلا أن المجلس الوطني الفلسطيني للمياه في السلطة رفض ذلك بحجة عدم التنازل عن حقنا في المياه الجوفية. البلديات تتنبه الى هذا الخطر الداهم، وتقوم بخطوات حثيثة لتأخير وقوع الكارثة وليس لمنعها، ومن هذه الخطوات، البحث عن ممول لإقامة خط ناقل للمياه من رفح الى بيت حانون، وإقامة جسم موحد للمياه خارج سيطرة البلديات كمصلحة مياه الساحل، للحد من الحفر العشوائي للآبار الجوفية، ووقف هدر المياه من خلال وضع آليات تحصيل جيدة منظمة لكلفة المياه المستهلكة تسهم في إقامة مشاريع تطويرية للمياه كإقامة محطات تحلية لمياه البحر وأخرى لمعالجة مياه الصرف الصحي. علماً أن تكلفة متر مكعب واحد من المياه في القطاع تبلغ نحو 5 شواقل، بينما تقوم البلديات بتحصيل شيقل واحد من المواطنين، وفي أحسن الأحوال تقوم بتحصيل نحو 1.7 شيقل من المواطنين، خصوصاً في جنوب القطاع، فيما تدفع بلديات القطاع لإسرائيل نحو 1.3 شيقل ثمن كل متر مكعب من المياه. وفيما تبلغ أقل نسبة تحصيل لتكلفة المياه في العالم نحو 75 في المئة، تضرب بلديات القطاع رقماً قياسياً عالمياً آخر لتسجل نسبة تحصيل لتكلفة المياه لا تتجاوز 15 في المئة فقط من التكلفة الحقيقية للمياه، الأمر الذي يعتبر سبباً آخر في الأزمة المالية الخانقة التي تتعرض لها بلديات القطاع والتي تهدد بانهيارها. عماد عفانة - بريد إلكتروني