انتهت المفاوضات التمهيدية لعقد المؤتمر الدولي لمكافحة العنصرية بانتصار ديبلوماسي لإسرائيل وهزيمة للعرب الذين طالبوا باعتبار "الصهيونية والممارسات الإسرائيلية أحد أوجه التفرقة العنصرية" وادراج هذا البند على جدول أعمال المؤتمر الذي سيعقد في جنوب افريقيا. لقد اعتقدت دول عربية عدة وبعض حليفاتها من الدول التي طالبت باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، ان "أجواء الانتفاضة الثانية" والاستنكار العالمي الذي يثيره القمع الإسرائيلي ومحاصرته الأراضي المحتلة وعزل القرى والمدن ومنذ دخول التموينات الغذائية وقطع إمدادات الكهرباء والمياه وحظر التجول، وغير ذلك من العقوبات الجماعية التي تنزلها إسرائيل بالشعب الفلسطيني، يمكن أن تسهل ادراج ملاحظة من شأنها أن تسبب قدراً من "الضغط الخارجي" على الحكومة الإسرائيلية للتخفيف من معاناة الفلسطينيين. غير أن مؤيدي الفكرة، التي كان يمكنها أن تعيد عقارب الساعة إلى ما قبل العام 1991 عام اتفاقية أوسلو التي تم في سياقها وبضغط أميركي قوي إلغاء تصنيف الصهيونية كحركة عنصرية، تناسوا قوة إسرائيل في الكونغرس الأميركي، وكانت قراءتهم خاطئة لما تردد عن انقسام بين أعضاء الكونغرس بصدد مقاطعة مؤتمر ديربان. ويمكن القول إن تشابك خطوط مصالح أعضاء الكونغرس جعلتهم يعتقدون بإمكان تمرير تلك الملاحظة في البيان الختامي للمؤتمر، أو على الأقل ادراج هذا البند على جدول أعمال المؤتمر ليشكّل ضغطاً على إسرائيل. ويعود الخطأ في التقدير من جانب العرب وحلفائهم إلى أن ل"العنصرية" التي تمثل أهم قضايا المؤتمر، انعكاسات على السياسة الأميركية الداخلية، وتطاول شرائح كبيرة من المجتمع الأميركي وتلامس الشرخ العنصري في الولاياتالمتحدة. ووجدت الإدارة الأميركية نفسها أمام مأزقين، فإلى جانب طلب بعض الدول العربية إدراج بند مناقشة ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة، فإن الدول الافريقية أصرت على مطالبة الدول الغربية بالاعتذار عن تجارة الرقيق التي استهدفت القارة قروناً عدة، ومنح تعويضات للمتضررين. وينص البند الرابع من أهداف المؤتمر على ضرورة "توفير وسائل انصاف فعالة، وتوفير الموارد ووسائل التعويض وغير ذلك من التدابير على الصعيدين الوطني والاقليمي"، الأمر الذي يمكنه أن يفتح الأبواب واسعة أمام إقرار تعويضات ضخمة تقدر بآلاف المليارات من الدولارات لذرية "العبيد" السابقين الذين نقلوا من القارة السمراء للعمل في حقول القارة الأميركية بقسميها الشمالي والجنوبي. وازاء تهديد واشنطن بمقاطعة المؤتمر، ظن مؤيدو التنديد بالصهيونية وبإسرائيل أن من الممكن الاستفادة من تناقض المصالح بين الأميركيين السود من أصل افريقي أكثر من 35 مليون أميركي ويهود أميركا، والافادة من الأضواء التي ستسلطها الصحافة الأميركية على المؤتمر، خصوصاً أن الرئيس جورج بوش ووزير الخارجية كولن باول أبلغا الأممالمتحدة برغبة الولاياتالمتحدة في المشاركة في المؤتمر، لكنها اشترطت حدف البندين المتعلقين بالتعويضات عن العبودية والتنديد بإسرائيل. وبرز في مستهل معركة الموتمر شيء من التوتر بين ممثلي اليهود الأميركيين وسود أميركا، خصوصاً تحت قبة الكابيتول مقر الكونغرس في نطاق المواقف الرسمية الاميركية التي مارست ضغوطاً على الاممالمتحدة وماري روبنسون مفوضة حقوق الانسان التي ترعى المؤتمر. وانتقدت الاميركية الافريقية سينسيا ماكيني الرئيس بوش وقالت ان البيت الابيض غير مهتم بمكافحة العنصرية. وردت على حجج البيت الابيض الذي قال ان فتح باب التعويضات سيفتح سجلات اغلقت قبل اكثر من 200 سنة. وردت على تساؤل بوش: من يدفع لمن؟ بأن واشنطن لم تتردد في تعويض المتحدرين من اصل ياباني عن المعاملة العنصرية التي تعرضوا لها خلال الحرب العالمية الثانية، حين احتجزوا في "مخيمات عنصرية" على اسس عرقية. ودافع السناتور توم لانتوس عضو الوفد الاميركي الذي فاوض الاممالمتحدة على شروط مشاركة واشنطن في مؤتمر ديربان عن المواقف الاميركية، واتهم بعض الدول بمحاولة "خطف اهداف المؤتمر لاسباب معادية للسامية". وكسبت اسرائيل المعركة على مرحلتين، مستخدمة خطة من شقين: التزام موقف حازم من جانب واشنطن تجاه الاممالمتحدة التي لا ترغب في عودة الاضطراب لعلاقاتها مع الممول الاكبر لموازنتها خصوصاً ان واشنطن لم تسدد ديون المنظمة الدولية عليها. وكان ذلك يعني ان الولاياتالمتحدة لن تحضر المؤتمر في حال التعرض لاسرائيل في اي فقرة من البيان الختامي للمؤتمر. وعلى رغم معارضة واشنطن للبندين المتعلقين بالصهيونية والتعويضات عن العبودية فإن التركيز انصرف نحو ازالة البند المتعلق بالصهيونية واسرائيل. وقال لاري فلايشر المتحدث باسم البيت الابيض اذا اصرّت الدول العربية والافريقية على مواقفها المتعلقة بالبندين "فإن الولاياتالمتحدة لن تشارك في المؤتمر"، لكنه استدرك ان الشيء الوحيد الذي سيمنعها من المشاركة والقيام بدور في مكافحة العنصرية في العالم يتمثل في محاولة منظمي المؤتمر خطف مؤتمرهم وتحويله مؤتمراً معادياً للسامية. وهكذا تركت واشنطن الباب مفتوحاً لاتفاق داخل البيت الاميركي بين اليهود والسود. وسعى وزير الخارجية باول الى التقليل من اهمية تباين وجهات النظر بين اليهود والسود. وذكر ديبلوماسي افريقي ان اضفاء صبغة "اميركية داخلية" على هذا النزاع حوّل الانظار عن قارة كاملة تحمّلت وزر العبودية قروناً طويلة وتطالب اليوم بتعويضات تساعدها على تجاوز محنتها الاقتصادية، وحول القضية الى خصام بين "اقليتين في اغنى دولة في العالم". وانتقد ديبلوماسي آخر الدول العربية التي قال انها اقحمت يهود اميركا في هذا الصراع من خلال مطالبتها بإدخال الصهيونية في سجل العنصرية. في حين ان غالبية هذه الدول سكتت العام 1991 حين ضغطت واشنطن على الاممالمتحدة لاستبعاد مقترحات مماثلة. ولولا وجود البعد الشرق الاوسطي في كواليس مؤتمر ديربان لامكن الدول الافريقية تحقيق مطالبها، خصوصاً انه باستثناء ما يخص اسرائيل فإن اللوبي اليهودي في الكونغرس ظل يدعم على الدوام مطالب سود اميركا. ولكن يبدو ان الحسم طاول فقط النقطة المتعلقة بالصهيونية ومساواتها بالعنصرية، فقد اعلنت مفوضة حقوق الانسان روبنسون ان هذا البند الغي نهائياً، ومع هذا فهي لم تؤكد هل ستحضر واشنطن المؤتمر ام لا. ويدل ذلك على ان النقطة الثانية لم تحسم حتى الآن. اذ انه في حال اقرار منح تعويضات فستفرض تلك التعويضات على دول غربية عدة معظمها من حلفاء واشنطن، في طليعتها بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال. وحسب بعض المعلومات التي يتناقلها بعض الوفود الافريقية فإن التعويضات يمكن ان تصل الى ارقام مخيفة. لكن الوفود الافريقية تخشى ان يكتفي المؤتمر في بيانه الختامي بعدم توجيه اصبع الاتهام الا الى التاريخ