في "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" حكاية عن ضابط اسرائيلي يزجر امرأة عائدة مع طفلها الى قرية تدعى البرّوة. يكتب إميل حبيبي في روايته الساخرة: "فقامت المرأة وقبضت على يد ولدها وتوجهت شرقاً... وكلما ابتعدت المرأة وولدها ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا...". كان ذلك في عام النكبة 1948، والطفل في السادسة من عمره، وكانت المرأة والدة محمود درويش. بعد هذا التاريخ بسنين سيستعيد الشاعر وقائع ما جرى، ساخراً من هادم القرى و"سفّاح الطفولة". كان درويش في عام النكبة قد نزح مع عائلته الى لبنان، وعاد بعد عام الى قرية لن يجدها، بعد ان هدمها "جيش الدفاع"، ليقاسم غيره من "عرب اسرائيل"، كما يقال، تجربة العيش في وطن مصادر. ولأن الحياة لم تكن واسعة فوق أرض اغتصبت أسماؤها، بدأ درويش بخلق الأفق الذي يريد، فذهب الى لغته وثقافته وعرف السجن في الرابعة عشرة، وكتب الشعر قبل ان يلتقي بالسجن الذي سيأخذ لاحقاً أشكالاً مختلفة. كان شعر الشاب الناحل بحثاً عن الأسماء وكتابة فوق كتابة وذاكرة تحتفظ بصور السهول الفلسطينية الآفلة. فقد أدرك درويش، وفي سن مبكرة، ان من يسمي المواضيع يملكها، ومن يكتب عن الوقائع يسيطر عليها، وأن الذاكرة فراغ موحش من دون حرف مكتوب ترتكن اليه. ومع ان الشاعر "مؤرخ السماء"، بلغة رومانسية خالصة، فقد آثر محمود ان يكون المؤرخ الغريب للقدر الفلسطيني الغريب، يكتب عن أرض يراها من سماء بعيدة، ويتأمل السماء وهو واقف في لا مكان. كتب المؤرخ بحروفه الغريبة عن أوجاع "عرب اسرائيل" صارخاً: "سجّل أنا عربي"، وكتب "أحمد الزعتر" حين أرهقته الأوجاع العربية، وحاور الكون متفجعاً في "مديح الظل العالي"، وهو يعيش خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت العام 1982، وساءل الحلم وانكساره في "أحد عشر كوكباً" العام 1992 بعد اتفاق أوسلو، حيث الخارطة الفلسطينية المقترحة تستجيب لمعايير "القوة" ولا تلتقي بالعدل الذي تطلعت اليه. محمود درويش هو المؤرخ الغريب الذي يكتب التاريخ بلغة لا يتداولها المؤرخون. وفي مهنته الغريبة يكون الشاعر مقيّداً وطليقاً في آن، مقيّداً وهو مشدود الى صخرته الفلسطينية، وطليقاً وهو يشتق الحزن الفلسطيني من تاريخ الشعر كله. ولعل المرض، الذي أبعد الصخرة قليلاً، هو الذي أتاح لمحمود ان يلتقي بنفسه في "جدارية محمود درويش"، اذ الشاعر يلتقي بالشعر الخالص وهو يتأمل قوة الحياة وهشاشتها في آن. بدا الشعر في "الجدارية" تتويجاً لمسار توزع على الاجتهاد والابداع، ومرآة تكشف عن ثقافة رفيعة وثقافة شعرية واسعة، احتضنت الشعر العربي القديم والحديث وموروثاً شعرياً كونياً متعدد الألوان. "لا يوجد الشاعر الا بعد القصيدة. ومن القصيدة يولد الشاعر"، يقول بلانشو. ومهما يكن القصد الذي يرمي اليه الشاعر الفرنسي، فإن تجربة درويش تؤكد أن الشاعر النجيب ابناً لمن سبقه من الشعراء النجباء، وأباً لقول شعري سيأتي بعده وينتسب اليه. وبسبب جهد ابداعي، تنظّم "قصيدته" الوجود "الشاعري" الذي تلتقي به. حوّل محمود التجربة الفلسطينية الى قصيدة كونية. وكان طبيعياً، في مدار منسوج من الموهبة والاجتهاد، ان يبدأ محمود شاعراً من "شعراء المقاومة"، وأن يصبح لاحقاً "شاعر المقاومة"، وان ينتهي، لزوماً، الى الشاعر الذي ينتمي الى ما شاء ان ينتمي اليه، وان تنتمي اليه أجيال من الشعراء. انتمى الانسان الى فلسطين، وتوزع شعره على أمكنة وأزمنة مختلفة، كما لو كان الشعر يحاور القراء الذين سعوا اليه، قبل ان يلتحق بزمن الشعر الذي ينتظره. نقل درويش قصيدته من زمن الوطن الى زمن الشعر، محوّلاً فلسطين الى مجاز شعري كبير. وكان في جهده الدؤوب 14 ديواناً يرد بصوت مهموس على تسويق الشعر الرديء بموازين وطنية، ويحاور بهدوء تعارضاً مصطنعاً بين الشعر والثورة، مؤمناً بأن الشعر لا ينعزل عن الحياة، وأن قصيدة لا تظفر بقارئها المحتمل لا ضرورة لها. لم يكن محمود يكتب قصيدة لجمهور واسع ينتظرها، بل كان يدخل الى عالم شعري أصيل، يروّض القصيدة ويروّض قارئاً ينتظر القصيدة. ولذلك لم يصطدم ب "شعر الغموض"، ولم يخذل القصيدة الكبيرة التي يتطلع اليها، وظل في ذاك الموقع الصعب والفريد، الذي يلبّي القصيدة ومستجدات الحياة والقارئ الفطين الذي يصفق للقصيدة. وفي هذه التجربة الشعرية كان الوطن حاضراً لا يغيب، يستولده الشاعر من نسيج شعري، لا يرتهن الى الجغرافيا وينفتح على تاريخ متعدد الأزمنة. لم يصدر إبداع قط عن انتصار او نشوة منتصرة. كما لو كان الابداع بحثاً متوحداً عن جهات الروح الضائعة وحواراً مع ليل مشبع بالضياء. لذا ترشح التراجيديا في مشروع درويش الشعري كله، وتكون تراجيديا ثنائية المصدر: تصدر عن تجربة فلسطينية تتعامل مع قرية انهدمت وغرفة قلقة ابتعدت وطفل خرج ولم يعد الى بيته ثانية. وتصدر عن عملية الابداع ذاتها، حيث القصيدة في مكان ومثالها الشعري في مكان لا يرى. وفي الحالين تتعامل الكتابة المبدعة مع المفقود والهارب والمحتجب ومع "مطلق شعري" عصيّ على التعريف. فالمطلق الذي تبحث عنه قصيدة درويش "كان" لا ما "يكون"، بل كان وانفقد. وفقدان الذي "كان"، ولا يبشّر بعودة، هو الذي يملي على درويش ان يقرأ "المطلق" في البسيط والمعقد وفي ضوء النهار وسدف الليل، وأن يسأل كثيراً ولا ينتهي الى اجابة. يقول درويش: "سأصير يوماً فكرة، لا سيف يحملها الى الأرض اليباب ولا كتاب. كأنها مطر على جبل تصدع من تفتح عشبة. لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد". في مكان ما "مطلق" يسأل عنه محمود درويش، منذ ان زجر الضابط الاسرائيلي والدته، وكان في السادسة من عمره، حتى اليوم. خلال شهر آذار مارس الماضي احتفل محمود درويش بعيد ميلاده، ودرويش هو الشاعر الذي ولد أكثر من مرّة