هل تنحى طواعية أم "استقالوه" هو الآخر؟ ذلك هو التساؤل الرئيسي الذي يشغل الجزائريين، منذ الاعلان المفاجئ عن انسحاب الرئيس زروال من الحكم، وتنظيم انتخابات رئاسية مسبقة، قبل نهاية شهر شباط فبراير المقبل. ولفظة "استقالوه" هي استعارة لغوية ابتكرها الشارع السياسي الجزائري في وصف "الانقلاب الأبيض" الذي أطاح الرئيس الشاذلي بن جديد، في كانون الثاني يناير 1992، تحت غطاء استقالة قال في خطابه للأمة انه أقدم عليها طواعية وتضحية منه خدمة للمصالح العليا للوطن. والربط بين استقالة بن جديد وتنحي اليمين زروال ليس أمراً اعتباطياً، فأوجه المقارنة بين الواقعتين متعددة. أولها ان الأسباب التي برر بها الرئيس زروال قراره التنحي عن الحكم، بقوله انه يأتي استجابة لقناعته بأنه قد آن الاوان لبدء مرحلة سياسية جديدة قائمة على مبدأ التداول على الحكم، مثلها مثل حديث بن جديد عن تضحيته طواعية بالمنصب الرئاسي خدمة للمصالح العليا للوطن، تبدو غير مقنعة بالنسبة الى الرأي العام، ولا تلقي بأضواء كاملة لكشف الخلفيات والدوافع الحقيقية للاستقالة، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام التأويلات والاشاعات، على اختلافها وتضاربها، حول حقيقة ما حدث، خصوصاً أن من أوجه المقارنة الأخرى بين استقالتي بن جديد وزروال، أن كلتيهما جاءت مباشرة في أعقاب اجتماع عاصف ل "القيادة العسكرية". لكن بعض التقارير السياسية والديبلوماسية، التي انطلقت من هذا المعطى السياسي والعسكري، للاستنتاج بأن قادة الجيش الذين أطاحوا بن جديد هم أنفسهم أرغموا زروال بالأسلوب نفسه على التنحي من الرئاسة، تنطوي على كثير من التبسيطية والسذاجة، برأي العارفين بالتفاعلات الخفية التي دفعت بالرئيس زروال الى اتخاذ قراره المفاجئ بالتنحي عن الحكم. فاجتماع "القيادة العسكرية"، الذي أسفر عن اطاحة بن جديد، عقد في غيابه ومن دون علمه، وتم خلاله التوقيع من قبل قادة المناطق العسكرية ورؤساء مختلف وحدات الجيش أكثر من 170 ضابطاً على عريضة تطالب الرئيس بن جديد ب "الانسحاب بشرف"، رفعها إليه الجنرال خالد نزار، في مواجهة حاسمة بينهما، مساء الجمعة 10 كانون الثاني يناير 1992، فضل الرئيس بن جديد على اثرها الانسحاب بسلام. وعلى النقيض تماماً من ذلك، فإن الاجتماع العسكري الذي انعقد عشية اعلان زروال عن تنحيه، ليس سوى أحد الاجتماعات الدورية التي تعقد مساء الخميس، مرة كل اسبوعين، وتضم ستة جنرالات من أبرز ضباط الجيش الجزائري، الذين تصفهم بعض المصادر بأنهم يشكلون "قيادة جماعية" تعود اليها سلطة القرار الحقيقية في التحكم بكل صغيرة وكبيرة في شؤون البلاد. والرئيس زروال هو الذي ترأس هذا الاجتماع بنفسه، كما حضره أيضاً مستشاره للشؤون الأمنية الجنرال محمد بتشين. وكانت هذه "القيادة الجماعية" تتشكل في الأصل من ستة جنرالات هم اعضاء "المجلس الأعلى للأمن"، الذي اتخذ قرار تعيين زروال رئيساً للدولة في 31 كانون الثاني يناير 1994. وهؤلاء هم رئيس هيئة الأركان الجنرال محمد العماري، ومدير المخابرات توفيق مدين، ووزير الدفاع السابق خالد نزار، وأقرب مستشاريه محمد تواتي، ومدير الأمن الداخلي للجيش الذي يرأس أيضاً فرق مكافحة الارهاب "نينجا"، الجنرال اسماعيل العماري، وقائد قوات الدرك الوطني الجندرمة بن عباس غزيل، قبل ابعاده من قبل الرئيس زروال، في مناسبة التعديلات العسكرية التي قام بها في 5 تموز يوليو من العام الماضي. ومنذ توليه حقيبة وزير الدفاع، في اعقاب تنحي خالد نزار، في صيف 1994، صار الرئيس زورال هو الذي يترأس الاجتماعات الدورية لهذه الهيئة التي يصطلح عليها اعلامياً بتسمية "القيادة العسكرية"، وهي غير قيادة الأركان التي يرأسها الجنرال محمد العماري. وفي وقت لاحق، وبالذات منذ خروجه منتصراً من معركة الانتخابات الرئاسية، في تشرين الثاني نوفمبر 1995، صار زروال يشرك في هذه الاجتماعات مستشاره الأمني محمد بتشين، بينما غاب عنها بن عباس غزيل، بعدما فقد منصبه كقائد للدرك، حيث سقط ضحية "لعبة التوازنات" الصعبة في أعلى هرم المؤسسة العسكرية، فضلاً عن معاناته من مشاكل صحية، وهي لعبة التوازنات المستحيلة ذاتها التي كانت وراء دفع الرئيس زروال للتنحي... ولأن الاعلان الرسمي عن تنحي الرئيس زروال، في خطابه للأمة مساء الجمعة 11 أيلول سبتمبر الجاري، جاء مباشرة في أعقاب نقاش عاصف بين أعضاء "القيادة العسكرية" المذكورة، في اجتماعها الدوري ليوم الخميس 10 أيلول، فإن أول ما يتبادر الى الذهن أن قادة الجيش هم الذين أرغموا الرئيس زروال أو دفعوا به الى التنحي. إلا أن معلومات استقتها "الوسط" من مصادر متطابقة في العاصمة الجزائرية، أشارت الى أن حقيقة ما حدث هي على النقيض تماماً من ذلك، حيث أن قادة الجيش بذلوا، خلال اجتماع الخميس 10 أيلول المذكور، جهداً خارقاً لاقناع الرئيس زروال بالتخلي عن فكرة الاستقالة بشكل فوري، لتفادي الوقوع في أزمة سياسية كبرى، تعود بالبلاد الى نقطة الصفر ذاتها التي واجهتها، بعد اطاحة بن جديد، في أعقاب حركة 11 كانون الثاني يناير 1992. وتم التوصل - بعد جهد - الى الحل الوسط المتمثل في اعلان زروال تنحيه، ولكن بعد تنظيم انتخابات رئاسية مسبقة. وما حدث في الاجتماع العسكري، مساء 10 أيلول لا يمكن فهمه إلا في سياق تطورات سابقة ومواجهات سياسية مهدت له، وأبرزها جدال محتدم آخر شهده اجتماع عسكري مماثل، عقد بعد ظهر الخميس 13 آب اغسطس الماضي، حيث أكدت مصادر جزائرية وثيقة ان الرئيس زروال جاء الى الاجتماع المذكور حاملاً نص استقالة كان يعتزم اعلانها للملأ، بعد اسبوع بالضبط من ذلك التاريخ، أي يوم الخميس 20 آب، خلال الخطاب التقليدي السنوي، الذي كان سيلقيه في مناسبة "عيد المجاهد". وتشير المصادر ذاتها، التي تحدثت الى "الوسط" قبل اسبوعين من تنحي زروال رسمياً، الى أن تلويحه بالاستقالة، في اجتماع القيادة العسكرية يوم 13 آب، كان تعبيراً عن استيائه الشديد من الانتقادات الموجهة الى رئيس الحكومة أحمد أويحيى، والاشاعات التي تطلقها جهات ذات نفوذ في كواليس السلطة العسكرية الجزائرية، بخصوص قرب اقالته. وكذلك الحملة الاعلامية التي تستهدف مستشار زروال للشؤون الأمنية، الجنرال محمد بتشين، من قبل بعض الصحف الجزائرية المعروفة بقربها من التيار المتشدد في الجيش. وكانت هذه الحملة التي تتهم الجنرال بتشين بالفساد والتسلط، قد بدأت بتصريحات مدوية أطلقها ضده رئيس "حزب التجديد الجزائري"، نور الدين بوكروح، ثم اتسعت رقعتها أكثر، بعد الكشف عن قضية الجامعي علي بن سعد، وهو مناضل نقابي معروف بأفكاره اليسارية والعلمانية، وينتمي الى حركة "التحالف الوطني الجمهوري"، التي يتزعمها رئيس الحكومة السابق رضا مالك، ما أثار جدلاً كبيراً لدى الرأي العام المحلي، بعد صدور حكم قضائي ادانه بالاعدام غيابياً، بتهمة غريبة هي الانتماء الى جماعة أصولية مسلحة! وكشف بن سعد في رسائل تناقلتها الصحف الجزائرية ان "الجريمة" الوحيدة التي ارتكبها هي انتقاده الجنرال بتشين في تجمعات شعبية في مسقط رأسه في مدينة قسنطينة، مشيراً الى أنه فصل من عمله في الجامعة بسبب تصريحاته المذكورة ضد بتشين، وتلقى تهديدات أجبرته على مغادرة البلاد الى تونس ومنها الى ألمانيا، حيث يقيم الآن. وأضاف أن بتشين بعث إليه وسيطاً اقترح عليه منحه "السلامة الجسدية" في مقابل ذهابه لمقابلة بتشين وطلب الاعتذار منه كتابياً. لكنه يقول انه رفض، فلم يجد بتشين - برأيه - وسيلة للانتقام منه سوى اتهامه بالانتماء الى جماعة أصولية مسلحة، على رغم أنه معروف بعلمانيته ومعاداته للمتطرفين، كما شهدت بذلك شخصيات سياسية وثقافية بارزة، منها رئيس الحكومة السابق رضا مالك. تجديد الثقة ويبدو واضحاً من الصيغة النهائية للخطاب الذي ألقاه زروال في مناسبة "عيد المجاهد"، أن تلويحه بالاستقالة قد أتى ثماره، حيث حصل من قادة الجيش على ضمانات كافية سمحت له بتجديد ثقته، في خطابه المذكور، بمستشاره بتشين، وبرئيس الحكومة أويحيى، ودعمه للاصلاحات الاقتصادية التي يقوم بها الأخير، ضمن برنامج الاصلاحات الهيكلية الذي يشرف عليه صندوق النقد الدولي. فما الذي حدث بالضبط لكي تنقلب الأمور رأساً على عقب، بعد أقل من أربعة أسابيع؟ على رغم صعوبة الجزم بتفاصيل ما حدث، خلال النقاش العاصف في اجتماع القيادة العسكرية، مساء 10 أيلول، إلا أن مصادر خبيرة في خفايا السياسة الجزائرية، رصدت ثلاثة عوامل أساسية، ترى أنها لعبت الدور الأبرز والحاسم في دفع زروال الى التنحي بشكل نهائي: 1- على رغم الضمانات التي حصل عليها زروال، بخصوص وقف الحملة ضد بتشين، وايجاد "حل هادئ" للمعضلة القضائية المتعلقة بالجامعي علي بن سعد، عرفت القضية تطوراً خطيراً، تمثل في الاعلان بشكل فجائي، يوم 9 أيلول، عن إحالة القضية على المحكمة العليا لإعادة النظر فيها. ما يعني امكانية تعرض الجنرال بتشين للملاحقة إذا ثبت بالفعل أن له يداً في تلفيق التهمة ضد بن سعد. وهذه سابقة خطيرة، تنم عن مدى إصرار خصوم بتشين في قيادة الجيش على الحد من طموحاته السياسية بكل الوسائل، خلافاً لما هو معمول به عادة. حيث يجمع كبار الضباط على حماية بعضهم بعضاً من أية ملاحقات، مهما كان حجم الخلافات بينهم، ما يفسر ما نقلته بعض المصادر عن مقربين من زروال من أنه أسر اليهم انه "قرر التنحي لأنه دخل الحكم طاهراً ويحرص على مغادرته طاهرا أيضاً". ولعله شعر بأن رغبة خصوم مستشاره، الجنرال بتشين، في وضع حد لطموحات الأخير السياسية بكل الوسائل، قد تصل بهم الى حد تقديمه ك "كبش محرقة" في قضايا الفساد، كما سبق أن حدث مع ضابط كبير آخر، هو الجنرال مصطفى بلوصيف، سنة 1993. فكان ذلك أحد دوافع زروال لاتخاذ قرار التنحي، خشية أن يتعرض أقرب مستشاريه الى فضيحة فساد مدوية، تسيء الى السمعة التي عرف بها زروال دوماً، كضابط يتسم بالوطنية والاستقامة، والتي كانت دافعاً له الى مغادرة الحياة العسكرية والسياسية، سنة 1989، احتجاجاً على تفشي الفساد في المرحلة الأخيرة من عهد الرئيس بن جديد. 2- استياء زروال من تجدد الحملة الهادفة الى اطاحة حكومة أويحيى، من قبل التيار المتشدد في الجيش، الذي عمد الى "تسخين الجبهة الاجتماعية"، تمهيداً لاضرابات وحركات احتجاج شعبية مفتعلة، مماثلة لتلك التي رافقت أحداث تشرين الأول اكتوبر 1988. وذلك بهدف اطاحة الحكومة، وتقويض برنامج الاصلاحات الاقتصادية الذي تشرف عليه، لأن تلك الاصلاحات تمس المصالح التجارية لبعض النافذين في كواليس التيار "الاستئصالي" المتشدد، كما يقول بعض المقربين من رئيس الحكومة أحمد أويحيى. بينما يرد خصومه بأن السياسة الليبرالية القصوى التي ينتهجها، هي التي تقود الى الانفجار الاجتماعي، لأن القدرة الشرائية للجزائريين العاديين انخفضت بمقدار 60 في المئة على رغم أرقام النمو الاقتصادي. 3- تجدد الحديث عن اتصالات سرية بين ضابط كبير في الجيش، يعتقد أنه الجنرال محمد بتشين، وقادة "جيش الانقاذ"، الذين كانوا أعلنوا "الهدنة"، في شهر اكتوبر من السنة الماضية، والسعي للضغط عليهم عن طريق زعيم "الانقاذ" التاريخي الشيخ عباسي مدني، الذي التقى خلال الاسبوع الثالث من شهر آب الماضي، قائد "جيش الانقاذ"، مدني مرزاق، في محاولة لاقناعه بالتخلي عن الاستراتيجية التي تبناها، منذ سنة، حين تفاوض بشكل مباشر مع أقطاب التيار المتشدد في الجيش، للحصول على عفو عام عن مقاتليه، في مقابل تسليمهم السلاح من دون أية شروط سياسية. وكانت تلك المفاوضات التي جرت بين مدني مرزاق والجنرال اسماعيل العماري، في أواخر صيف السنة الماضية، قد نسفت مشروع تسوية بين التيار الاسلامي، ممثلاً في "جبهة الانقاذ"، و"التيار الوطني" الذي يتزعمه زروال. وكان قد شرع في هذه التسوية باطلاق سراح الشيخ مدني. إلا أن الاتفاق المفاجئ بين "صقور" التيار المتشدد في الجيش وقادة "جيش الانقاذ"، أدى الى نسف مشروع تلك التسوية. حيث وجد قادة التيار المتشدد في الجيش في الهدنة التي أعلنها "جيش الانقاذ" من دون شروط، حجة قوية للضغط على الرئيس زروال لوقف الاتصالات نهائياً مع "جبهة الانقاذ" . الخطوط الحمر إلا أن تجديد تلك الاتصالات مع "جبهة الانقاذ" وجناحها المسلح، وما نقلته بعض المصادر عن الشيخ مدني من أنه قال، بعد لقائه الأخير مع مدني مرزاق، انه يشعر أن الظرف صار مهيئاً الآن لاطلاق حزب جديد بديل عن "جبهة الانقاذ"، أثار توجس قادة في الجيش. خصوصاً بعد التصريحات الأخيرة للأمين العام لحزب "التجمع الوطني الديموقراطي"، الموالي للرئيس زروال، محمد الطاهر بن بعيبش" التي دعا فيها علانية الى اقامة تحالف بين التيار الاسلامي والتيار الوطني الموالي للرئيس. وهو ما يخشاه عدد من قادة الجيش، لأن مثل هذا التحالف من شأنه أن يكسب الرئيس قاعدة شعبية حقيقية تسمح له بتحجيم الدور السياسي للمؤسسة العسكرية. والشيء الذي دفع عدداً من قادة الجيش الى أن يشهروا في وجه الرئيس زروال مجدداً، خلال اجتماع 10 سبتمبر الأخير، "الخطوط الحمراء" المتمثلة في اعتراضهم بشكل قطعي على ما وصفوه بأنه تسلل تدريجي للأصوليين المتشددين الى مؤسسات الدولة. حتى أن بعض المصادر قال ان قادة الجيش اشترطوا على زروال اقالة حكومة أويحيى أو ابعاد الوزراء السبعة المنتمين الى التيار الاسلامي المعتدل، لقطع الطريق أمام أي مشروع تحالف سياسي مع الاسلاميين. ما جعل الرئيس زروال يشعر بأن كل ما حققه من انجازات سياسية، منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية الى غاية تأسيسه حزباً موالياً له يمتلك الغالبية المطلقة في البرلمان، لم يمكنه من امتلاك سلطة القرار الحقيقية التي تتيح له الذهاب بخياراته السياسية الى النهاية. الشيء الذي يفسر اشارته مرات عدة في خطاب التنحي، الى "الشعب السيد" من أجل تكريس الإرادة الشعبية ومبادئ التعددية والتداول على الحكم