أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    السعودية تفوز بعضوية مجلس منتدى النقل الدولي ITF    "الصناعة والثروة المعدنية" تصدر 54 ترخيصاً صناعياً جديداً خلال مارس 2024    السفير بن زقر يسلم أوراق اعتماده لإمبراطور اليابان    "مكافحة التستر التجاري" تنفذ أكثر من 6600 زيارة تفتيشية خلال شهر إبريل    «الحج والعمرة»: إيقاف إصدار تصاريح العمرة عبر تطبيق «نسك» لمدة شهر    مؤتمر مستقبل الطيران 2024 يختتم فعالياته في الرياض    علامة HONOR تكشف عن بنية الذكاء الاصطناعي المكونة من أربع مستويات وتمضي قدماً مع Google Cloud من أجل مزيد من تجارب الذكاء الاصطناعي في VivaTech 2024    وزير الحرس الوطني يرعى حفل تخريج دورة تأهيل الضباط الجامعيين ال35 والدفعة ال40    «الإحصاء»: الصادرات غير البترولية تسجل ارتفاعاً بنسبة 3.3% في الربع الأول من 2024    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    أدبي الطائف يقيم الأمسية السودانية ضمن لياليه العربية    رابطة روشن تعلن عن إقامة حفل تتويج للهلال    "سدايا": حريصون على المعايير الأخلاقية بالذكاء الاصطناعي    محافظ الخرج يُكرم شركة "لمسات احترافية" لجهودها في تنظيم الفعاليات الوطنية والمحلية    محمية الملك سلمان.. أول موقع رئيسي للتنوع البيولوجي    فرص تمويل واستثمار ب"كان" من الصندوق الثقافي    "مايكروسوفت" تترجم مقاطع الفيديو وتدبلجها    نائب أمير الرياض يرعى حفل تخريج الدفعة ال 49 من طلاب مدارس الرياض    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    «صراع الهبوط» يصطدم بالكبار    تخريج 700 مجند من دورة «الفرد»    أزمة بين «سكارليت» و«شات جي بي تي» والسبب.. تشابه الأصوات    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    أمير تبوك يكرِّم الطلاب والطالبات الحاصلين على المراكز الأولى في المسابقات    مغني الراب.. راح ضحية استعراض مسدسه    قوة فريق العمل    جنة الأطفال منازلهم    العمر.. والأمل    علم النفس المراحل العمرية    وصول ركاب الخطوط السنغافورية بسلام بعد رحلة جنونية    القبض على أربعة مروجين للمخدرات    لقاء علمي يستعرض تجربة بدر بن عبدالمحسن    خبراء يناقشون تجربة «أوبرا زرقاء اليمامة»    هيئة المتاحف تنظم المؤتمر الدولي للتعليم والابتكار    لا فيك ولا في الحديد    تنمُّر التواصل الاجتماعي.. قصة كارسون !    رحلة في العلاقات السعودية الأمريكية.. من المُؤسس إلى المُجدد    "الصحة": اشتراط ثلاثة لقاحات لأداء فريضة الحج    ثلاثي روشن يدعمون منتخب البحارة و رونالدو: فخور بتواجدي مع البرتغال في يورو 2024    البرتغالي جوزيه مورينيو في ضيافة القادسية    واتساب يتيح قفل المحادثات على الأجهزة المتصلة    229 مشروعاً تنموياً للبرنامج السعودي في اليمن    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    أتالانتا الإيطالي "يقسو" على باير ليفركوزن الألماني.. ويفوز بلقب الدوري الأوروبي    معرض «لا حج بلا تصريح» بالمدينة المنورة    د. خوقير يجمع رجال الإعلام والمال.. «جمعة الجيران» تستعرض تحديات الصحافة الورقية    السبت الكبير.. يوم النهائيات الخمسة.. العين يطمح للقب الآسيوي.. والأهلي لتأكيد زعامته للقارة السمراء    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    الأمير سعود بن مشعل ترأس الاجتماع.. «الحج المركزية» تستعرض الخطط التشغيلية    الكاتب العقيلي يحتفل بتخرج إبنه محمد    آل مجرشي وآل البركاتي يزفون فيصل لعش الزوجية    "أبرار" تروي تحديات تجربتها ومشوار الكتابة الأدبية    استشاري: حج الحوامل يتوقف على قرار الطبيب    جناح الذبابة يعالج عيوب خلقية بشرية    برعاية وزير الداخلية.. تخريج الدورة التأهيلية للفرد الأساسي لمجندات الدفعة السادسة في معهد التدريب النسوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لم يعد هناك أبطال في نهاية القرن فأخذت السينما المهمة . نجوم السياسة والفن صاروا افلاماً سينمائية
نشر في الحياة يوم 03 - 03 - 1997

كلهم صاروا على الشاشة، من عبدالناصر الى كينيدي ونيكسون، ومن المهاتما غاندي وبيكاسو الى ايفا بيرون والباقي في الطريق الينا، افلام عن كلينتون أو عن جبران، عن اسمهان أو عن كاسترو أو نورييغا. فلسنا نتحدث هنا، بالطبع، عن الافلام التسجيلية التي تروي التاريخ، بل عن الأفلام الروائية التي تعيد تكوين تاريخ الشخصية وتقدمها لنا في بعدها الدرامي، عبر حياتها، أو لحظة من حياتها أو جانب من تلك الحياة. هنا جولة في هذا النوع السينمائي الذي يزداد انتشاراً مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، ومع بداية فن السينما مئويته الثانية.
ما هو القاسم المشترك بين غاندي وتشارلي تشابلن، ولورانس العرب وايفا بيرون؟ أو بين نيرودا وكافافي وبيكاسو، ثم اذا اقتربنا اكثر من منطقتنا العربية: بين جمال عبدالناصر وجبران خليل جبران ومي زيادة وعبدالحليم حافظ وربما اسمهان وأم كلثوم؟
حسناً... الجواب هو، للوهلة الأولى: كلهم من نجوم القرن العشرين، هذا القرن الذي لم يعرف التاريخ من النجوم مقدار ما عرف، والذي فيه ارتبطت حياة النجوم بحياة الجمهور، اكثر مما ارتبطت في أي زمان آخر. غير ان جواب الوهلة الأولى هذا، لا يكفي. لكن لن يطول بنا الوقت قبل ان نعثر على الجواب الاصح: كلهم قبل انقضاء هذا القرن، صاروا نجوماً على الشاشة بقدر ما كانوا نجوماً في الحياة. فإن ثمة توجهاً جديداً - قديماً لفن السينما والتلفزة بالتالي ما يقول لنا بأن كل حياة الكبار تبدو لنا اليوم وكأنها قد صنعت كي تنتهي صوراً على الشاشة، ان لم تكن هي من سيقودها، لأن اصحابها باقون في ذاكرة الناس وحياتهم بأي حال من الاحوال، فإنها على الأقل ستؤبد العلاقة بين تلك النجوم وجماهيرها، ولربما تعطي للعلاقة نفسها ابعاداً اخرى.
من المعروف، على أي حال، ان فن السينما ومنذ سنواته الأولى، اتجه بشكل أو بآخر لاستلهام حياة الكبار وتحويلها الى شرائط غالباً ما كانت تحقق نجاحات كبيرة وحسبنا اليوم ان نتذكر افلاماً كان ابطالها ابراهام لينكولن وماثا هاري وصولاً الى المجرم الفرنسي الشهير لاندرو الذي خلده تشاري تشابلن في فيلمه "مسيو فيردو"، لكي ندرك ان افلام "السيرة" ليست بالأمر الجديد على عالم السينما، فالسينما على مدى سنوات عمرها البالغة مئة عام، قدمت مئات السير التي تتحدث عن اشخاص حقيقيين الى جانب تقديمها للحياة الوهمية المفبركة. وفي احيان كثيرة كانت السينما "تفبرك" حياة وهمية لنجوم حقيقيين، أو حتى تجعل من نجوم وهميين جزءاً من الحياة الحقيقية، ناهيك عن تحويلها نجوم السينما انفسهم الى أوثان وأنصاف - آلهة، غير ان ما يهمنا هنا، وما يلفت نظرنا، هو هذه الحركة التي تسارعت وتتسارع الآن لتحويل حياة كبار القرن العشرين الى افلام، حتى وان كانت حياة بعضهم لا تحمل ابعاداً درامية تبرر حضورها على الشاشة. وفي جميع الاحوال من الواضح ان فناني السينما عرفوا دائماً كيف يستنبطون الدراما من العناصر الداخلية لحياة قد تبدو للوهلة الأولى جافة عابرة. وحسبنا الفيلم الذي حقق في الولايات المتحدة عن الرئيس نيكسون حتى نلمس هذا الواقع، بل اكثر من هذا، حسبنا ان نعرف اليوم ان ثمة في الأفق مشروعاً عن حياة كلينتون نفسه، متخذاً على الشاشة ملامح جون ترافولتا !، لكي ندرك كيف يمكن للسينما ان تشتغل على حياة أفراد فتحولها الى اساطير. ويبقى السؤال ها هنا، ماثلاً: ما الذي في حياة نيكسون أو كلينتون يمكنه ان يحرك الكاميرا وأموال المنتجين واهتمام الجمهور في الوقت نفسه؟ ببساطة: حضور هذه الشخصيات في الزمن، وحضورها في اذهان الناس، ذلك الحضور الذي اذ يتخذ في الاذهان صوراً واقعية مستقاة من الحياة الراهنة والوقائع المعروضة، أو صوراً متخيلة يصفها كل فرد من الجمهور على مذاقه، تأتي الشاشة لتؤبدها في صور اخرى مستقاة هذه المرة من خيال المؤلف / المخرج عبر تعاطيه مع الواقع المعروف للشخصية المعنية.
من المؤكد في هذا السياق ان الصورة التي تتكون عند الناس عن الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر، لن تتأثر كثيراً بلعب احمد زكي لها على شاشة المخرج محمد فاضل، ولكن هل يمكن لصورة ايفا بيرون، ان تفلت من الآن وصاعداً من سمات الفنانة مادونا، التي قامت بدور ايفا في الفيلم الذي يعرض حالياً، بنجاح، في شتى انحاء العالم؟
زمن الحاجة الى الابطال
قبل الاجابة عن هذا السؤال يجدر بنا، بالطبع، ان نجيب عن سؤال آخر، يبدو في نظرنا اهم. وهو: لماذا - اصلاً - تهتم السينما بحياة هذا النوع من النجوم أو الابطال؟ بكل بساطة، لأنه نوع يقبل عليه الجمهور. ويأتينا النجاح الساحق والاستثنائي الذي حققه عرض "ناصر 56" ليؤكد لنا على هذا الأمر. فالناس تدافعت لمشاهدة الفيلم، رغم عدم تميزه التقني، رغم لحظات الضجر التي تملأه، لمجرد انه يحكي لها حياة بطل تعرفه، وربما تحن اليه ايضاً. وعنصرا "التعرف" و"الحنيني" يلعبان في هذا المجال دوراً كبيراً. فأهل نهاية القرن العشرين الذين جردتهم التلفزة وحولتها الى حياة موازية، من كل وهم حول البطولة والابطال، عبر لعبة تحتاج الى تحليل طويل، لكننا نكتفي هنا ببعض الاشارات اليها، اهل نهاية هذا القرن يحتاجون الى "صورة اخرى" لابطالهم، صورة تؤبد ما تراكم في اذهانهم عن هؤلاء الابطال، وتأتي نقيضة للصور المتلفزة التي تحمل "جفاف" الواقع و"تجزؤه". والحقيقة انه لئن كان الناس، منذ بداية الزمان، يحتاجون الى الابطال، لدرجة انهم لم يكفوا عن اختراعهم، منذ رسوم الكهوف، الى ابطال الحروب الحديثة مروراً بأبطال الاساطير المخترعين، فان زماننا الراهن هذا، والذي خلا من البطولة، وتحول فيه كل شيء صورة تلفزيونية، يقبل على اختراع الابطال. فاذا اضفنا الى هذا ان تحوّل ابطال السينما الى مجرد مغامرين يتبدلون كمناديل الورق، وتحول نجوم السياسة الى موظفين يرى الجمهور انهم مجرد مؤتمرين بأمرة الاوضاع الاقتصادية ولا عمل لهم سوى الادلاء بالتصريحات وحضور المؤتمرات، الى ما هنالك، يصبح من المشروع، لمن اراد، بعد ان يداعب عواطف الجمهور، ان يبحث عن البطولة لدى شخصيات معروفة ولها في الاذهان مكانة. لتقديم ذلك كله على طبق سينمائي، شهي كثيراً أو قليلاً، مما يعد، اذن، بأنه مع نهاية هذا القرن، ستكون ذاكرته كلها، ذاكرته المتحلقة من حول "ابطاله" قد تحولت الى صور.
وفي هذا يكمن السبب في اهتمام السينما في ناس حقيقيين لترسم صورا لحياتهم تجتذب بها الجمهور او تمعن عبر ذلك في ترسيخ دور جديد للصورة المتحركة. بعد ذلك لا يهم كثيراً القول بأن السينما انما تلجأ لاستلهام حياة حقيقية، لأن معين الابداع الروائي قد نضب، حيث ان الوف الافلام التي حققت، في كافة بلدان العالم قد استهلكت كافة المواضيع الممكنة أو غير الممكنة، فغاصت في الماضي وصورت الحاضر، وتوجهت الى المستقبل، وخاضت مواضيع الرعب والعواطف والحروب والجرائم، ونقلت الى الشاشة روائع الادب والمسرح والأوبرا، بل ابدعت في استلهام نفسها، فان من اجمل ما قدمته السينما، مثلاً، على مدى تاريخها، افلاماً تستلهم فن السينما نفسه. ثم اطلت على المغنين وعلى الكوميديا الموسيقية والميلودراما والفجائع ومواقف الذل والنقد الاجتماعي والتعبير الذاتي. وبعد ذلك كله وقفت محاولة ان تكتشف ميادين جديدة تغوص فيها. ولما كان قرننا العشرون هذا يبلغ اعوامه الاخيرة فيطل على احداثه الكبرى، ولما كانت هذه الاحداث الكبرى مرتبطة بأسماء اشخاص كبار، كان من الطبيعي للسينما ان تنهل. من هذا المكان. وظلت المعضلة تقول: اذا كان المعدل العام لطول الفيلم ساعتين، فكيف يمكن تلخيص حياة بأسرها في ساعتين؟
في جميع الاحوال كان من النادر للسينما ان ترسم حياة "كل" او "حجم" بأسرها. فالسينما في نهاية الامر سينما، وليست كتاب تاريخ، ومن هنا تبدي اهتمامها بحياة من تتحدث عنهم اهتماماً مركزاً، يكثف الحياة الخاصة بهم في مواقف ولحظات منتزعة من سياق تلك الحياة، لضرورات تقنية اولاً، ولكن ايضاً لضرورات "تصنيمية" فأنت لكي تخلق بطلك وتجعله مقنعاً، عليك ان تختار الصورة المكثفة التي تقدمه عبرها. ومن هنا تأتي: أولاً، لعبة الخيال التي تحول حياة حقيقية الى صورة مؤسطرة، ثانياً، لعبة اعادة خلق الشخصية من جديد، وثالثاً، لعبة اختيار اللحظات الأقل عادية والاكثر مأسوية او درامية للتخفيف من حياة الشخصية المعنية. وهذه العناصر الثلاثة متضافرة هي التي تعطي عن الشخصية تلك الصورة، التي قد تتأبد في اذهان الناس، والتي غالبا ما تبدو مجتزأة او غير واقعية.
وحسبنا هنا ان نذكر، كيف ان فيلم "تشابلن" لريتشارد اتنبورو او "بيكاسو" لجيمس آيغوري، هوجما ولا يزالان يهاجمان لأن مخرجيهما اختارا ان يرويا حياة كل من الشخصيتين عبر علاقاتها مع النساء. انه اختيار لسنا ندري ان كان في وسعنا ان نوافق المخرج او لا نوافقه عليه، لكنه اختيار مشكلته انه بالنسبة الى ملايين المتفرجين، وفي غياب افلام اخرى عن الشخصية نفسها تؤرخ لمظاهر وظواهر حياتها الاخرى، ستجازف بأن تطبع، الى الأبد، في اذهان الناس صورة لتشابلن او لبيكاسو بوصف الواحد منهما زير نساء لا اكثر.
لحظات، من حياة طويلة
في المقابل يأتي "ناصر 56" ليعطي عن عبدالناصر صورة البطل المنتصر في تلك المعركة الهائلة التي خاضها: معركة تأميم القناة، ومن شأن هذا ان يؤبد صورته كمنتصر، ضارباً الصفح عن هزائمه والاشكالات التي تثيرها سياسته ودوره التاريخي. اما ايفا بيرون، فهل سيمكن لأحد بعد الآن ان يتخيلها إلا وهي تغني رافعة يديها تحت ملامح مادونا "لا تبكي من اجلي يا ارجنتينا"؟ وأبطال الثورة الايرلندية مثلهم كولينز اي صورة ستبقى لدى الجمهور عنهم بعد مشاهدة الفيلم المكرس لحياة هذا الاخير؟
ان لعبة الاختيار تبدو ها هنا لعبة حاسمة. والمؤلف/ المخرج يقوم بعملية الاختيار عادة كأنه يستحوذ على الشخصية منتزعاً اياها من تاريخها الحقيقي ليسكبها في مسار تاريخه الشخصي او تاريخ سينماه. من هنا تأتي الاشكالات والمشاكل التي غالباً ما تتلو كل عرض اول لكل فيلم يتحدث عن شخصية من هذا النوع. نقول هذا ونتذكر خاصة كيف اضطر كمال الشناوي، حين مثل فيلم "طريق الدموع" عن حياة انور وجدي لأن يصر على عدم التصريح بأن الفيلم هو عن حياة هذا الاخير. ومع هذا وصلت الامور الى القضاء بين اصحاب الفيلم والقيّمين على حياة انور وجدي وتراثه.
حين يبتعد الزمان، بعض الشيء، بالشخصيات التي تصورها السينما، يندر ان يثير الامر إشكالات خارج اطار الاشكالات الفنية الصرف، كما هو الحال، مثلاً، مع فيلم "ألمظ وعبده الحامولي" عن حياة المغنيين الشهيرين حيث قام بدوريهما عادل المأمون ووردة ولكن حين يقترب العهد بالشخصية، او تكون في الأصل صاحبة حياة اشكالية تثور الزوابع - التي غالباً ما تخدم الفيلم كدعاية مجانية له على اي حال - وفي اعتقادنا ان مخاوف من هذا النوع هي التي لا تزال تؤخر انتاج الفيلم الموعود عن حياة فنانتنا العربية اسمهان. فالواقع ان حياة اسمهان المليئة بالعناصر الدرامية، وبأبعاد الحنين، اغرت السينمائيين كثيراً، بحيث ان هناك في الأفق، دائماً ثلاثة او اربعة مشاريع لأفلام عنها، اشهرها بالطبع، "مشروع" عمر اميرالاي ومشروع رنده الشهال، ومع هذا حتى الآن لا يزال التردد قائماً وقد يمضي وقت طويل قبل ان نرى فيلماً عن حياة صاحبة "ليالي الانس في فيينا". وفي جميع الاحوال سوف يصل الفيلم، لو حقق، الى القضاء. في المقابل ثمة احتمال ضئيل في ان يصل الى القضاء فيلم يركّب مشروعه الآن عن حياة عبدالحليم حافظ من الطريف ان المرشح للعب دوره هو احمد زكي الذي لعب دور عبدالناصر في "ناصر 56"، وآخر عن حياة ام كلثوم من المحتمل ان تلعب فيه فردوس عبدالحميد زوجة عبدالناصر في الفيلم آنف الذكر دور كوكب الشرق. والحقيقة ان ذكر اسمي احمد زكي وفردوس عبدالحميد في هذا المجال يطرح علينا اشكالية اساسية وهي: هل يصح ان يؤتى بنجم سينمائي معروف ومكرّس ليقوم على الشاشة بدور نجم آخر؟ ان التجارب التي نراها ماثلة امامنا تشجع على عكس هذا، فلئن كان من المقبول ان نرى انطوني هوبكنز يلعب تارة دور ريتشارد نيكسون وتارة اخرى دور بيكاسو، على الرغم من الفارق الكبير بين الشخصيتين، وذلك لأن هوبكنز فنان كبير ومقنع ويمكنه ان يلبس وبشكل استثنائي جلد الشخصية التي يمثلها. اما احمد زكي فانه لم ينس للحظة، وهو يمثل دور عبدالناصر، انه أحمد زكي. وكذلك الحال مع مادونا التي سيطرت ملامحها وهواجسها على ملامح وهواجس ايفا بيرون. ومن الواضح ان جزءاً كبيراً من الاحساس بالقلق الذي يعتري المتفرج الواعي والعارف بحياة الأشخاص الذين يشاهدون على الشاشة حياتهم "ممثلة" ينبع من هذا الواقع، واقع التفاوت بين الحقيقة الشكلية والروحية للشخصية وصورتها على الشاشة. فإن كانت النتيجة، في العادة، ان يرفض المتفرج الواعي، التماهي مع الفيلم واعتباره يعبر حقاً عن "نجومه الحقيقيين" فإن المتفرج غير الواعي - وهو يشكل الغالبية على أي حال - سوف يدخل اللعبة وتصبح ايفا بيرون لديه الى الأبد متماهية مع مادونا، مع غلبة لهذه الأخيرة، وعبدالناصر، متماهياً مع أحمد زكي… الخ.
من جبران الى برهان وبالعكس
مهما يكن، فإن مأزق اختيار الشخصية واختيار من سيلعب دورها، يتخذ ابعاداً أخرى اكثر منطقية، حين يسعى المخرج/ المؤلف، عبر رسمه لشخصية حقيقية على الشاشة، ليس الايهام بأنه يقدم صورة لحياة تلك الشخصية، بل الايحاء بأنه انما يستخدم شخصية يرى لديها ابعاداً فكرية ودرامية جديرة بأن تقدم فيلماً على الشاشة. وفي هذه الأحوال يكون العمل أكثر منطقية ومصداقية، لأن الفيلم يكف عن الادعاء بأنه فيلم "سيرة" ليتحول الى فيلم فني - درامي، يستفيد من "السيرة" ومن وجود البطل المعروف وأفكاره، ليقدم شيئاً آخر. الى هذا النوع، مثلاً، ينتمي فيلمان مختلفا القيمة والحضور شوهدا، أخيراً: فيلم "ساعي البريد" ويلعب فيه فيليب نواربه دور الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، الذي يلتجئ ذات يوم الى جزيرة يلتقي فيها مع ساعي بريد بسيط فتنشأ بين الاثنين علاقة طيبة هي موضوع الفيلم. مثل هذه العلاقة تحبب نيرودا الى قلوب الناس وتدفعهم الى قراءته بالطبع، لكنها لا تكذب عليهم، لأنها تشعرهم في كل لحظة بأن نيرودا هنا انما هو محرك ورمز وذريعة. والفيلم الثاني هو فيلم يوناني حول حياة الشاعر كافافي في مدينة الاسكندرية. وهنا مرة أخرى لا يعود مهماً ان يشبه الممثل الشاعر، او حتى ان يوحي بذلك، المهم ان يعيش الممثل سيرة الشاعر في مدينته، فتصبح العلاقة بين شاعر ومدينة هي "بطل" الفيلم الحقيقي.
وفي اعتقادنا ان المشروع الذي يعده السينمائي اللبناني برهان علوية عن "جبران" ينتمي الى هذا النوع، الأكثر فائدة وجمالاً، من أنواع أفلام السيرة: حيث ان السيناريو، الذي انجزت كتابته حتى الآن بالمشاركة بين برهان علوية، وجان - بيار دحداح كاتب سيرة جبران بالفرنسية لا يقوم على السرد الخطّي والشكلي لحياة صاحب "النبي" بل على رسم لتلك الحياة منظوراً اليها عبر كتاب "النبي" ولكن ايضاً عبر ما يريده مخرج الفيلم من جبران ومن عمل فيلم عنه.
وفي جميع الأحوال من الواضح ان "جبران" برهان علوية لو تحقق، لن يسند الدور الأول فيه الى ممثل معروف، بل الى شخص قد يشبه جبران، شكلاً وروحاً، ليس لأن برهان علوية يحب ان يوهم بالحقيقة التي يحطمها دائماً اختيار نجم معروف لاداء دور شخصية معينة، بل لأن هذا هو أسلوبه، فبرهان علوية لا ينتمي الى طائفة المخرجين الذين يحلقون فيلمهم من حول نجم معين. فيلم "جبران" سينتمي، حين انجازه، الى سلسلة من أفلام عربية، بدأت منذ سنوات اهتمامها بالشخصيات الحقيقية، فكانت هناك أفلام عن "ألمظ وعبده الحامولي" ثم عن "مصطفى كامل" و"سيد درويش"، بل حتى الرئيس العراقي صدام حسين كان له فيلم تتبع بعض مراحل حياته، كما رواها هو نفسه لكاتب سيرته عبدالأمير معلا، في كتاب حمل اسم "الأيام الطويلة" كان توفيق صالح هو الذي حوله الى فيلم كان آخر ما حققه حتى الآن. والطريف ان الذي لعب دور صدام في ذلك الفيلم كان صداماً آخر من تكريت قريب له، هو الذي صار صهره في ما بعد، وأعدمه بعد فراره الى الأردن. وعلى هذا كان صدام الصهر، أول بطل فيلم يتم اغتياله لأسباب سياسية!
ومن المؤكد انه فيما يقترب القرن من سنواته الأخيرة، ستتسارع هذه الحركة التي اعطت في تونس فيلماً عن حياة المغنية "حبيبة مسيكة"، وفي مصر افلاماً عن حياة طه حسين وتوفيق الحكيم وبمبة كشّر، بين آخرين، بحيث اننا خلال ما تبقى من سنوات هذا القرن سنشهد أفلاماً عن حياة هدى شعراوي جميل راتب مخرجاً؟! ومي زيادة، وربما كاميليا وأحمد سالم. من دون ان ننسى المشروع الكبير عن حياة عبدالعزيز بن سعود الذي ما برح الكثير من السينمائيين يحلمون بتحقيقه منذ توقف مشروع من هذا النوع كان على وشك انجازه المخرج الكبير جوزيف لوزاي اوائل سنوات الثمانين، بعد ان تم بناء الديكورات في المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.