تتجه الدراما العربية في السنوات الأخيرة، نحو ما يسمى "دراما الشخصية"، حيث تنهمك في استعادة ونبش سيَر أبطال ومفكرين ومبدعين، بحثاً عن أمثولة غائبة في اللحظة الراهنة. فأمام جدار الهزائم والخيبات وانكسار المشروع التنويري، ترتسم صور من غابوا، باعتبار أن هؤلاء يشكلون وجداناً جمعياً، يعيد بعض الأمل الى صورة الحاضر الباهتة، لكن هذه الصورة المقترحة، تنشغل غالباً بالزخرفة الجمالية واللفظية، أكثر من انشغالها في توصيف وتوثيق زمن الشخصية وانكساراتها وتحولاتها الحياتية، فهي في المآل الأخير، شخصية معقمة، تخلو من الصفة الدنيوية، لتصل الى مصاف الملائكة والقديسين، ما يجعلها شخصية مزيفة، ينظر اليها بعين وردية، تلغي كل ما يؤذي أفعالها البطولية بوصفها بطلاً ايجابياً منزه عن الأخطاء البشرية. كاريزما دائمة هكذا قدمت الشاشة العربية في السينما والتلفزيون، شخصيات "عمر المختار"، و"أم كلثوم"، و"جمال عبدالناصر"، و"الكواكبي"، و"السادات"، وعلى رغم اختلاف الرؤى في اضاءة عوالم هذه الشخصيات الاستثنائية، إلا أنها تتفق عند ابراز "الكاريزما"، وهو ما يبيح اقصاء جزء من تاريخ الشخصية، كي لا تتشوه "الصورة الوردية"! واليوم، تطرح الدراما السورية في وقت واحد، صورة "صلاح الدين الأيوبي" في نسختين مختلفتين، تحاول الأولى إلغاء الثانية، في معركة أخذت تظهر الى العلن، بين مخرجي العملين: نجدت أنزور وحاتم علي، عن أحقية كل منهما في تقديم هذه الشخصية الاستثنائية في التاريخ الاسلامي. ولعل المشكلة الحقيقية، سوف تتجسد حين ظهور العملين على شاشة التلفزيون في زمن واحد، إذ ماذا سيفعل المتلقي وهو يشاهد "صلاح الدين" بكل حضوره الوجداني في ذاكرة المشاهد، عبر شخصيتين مختلفتين، الأولى يجسدها رشيد عساف، والثانية جمال سليمان؟ الأول بقامته الربعة، والثاني بقامته الطويلة، اضافة الى اختلاف نبرة الأداء واسلوبية الحوار بين العملين، وربما اختلاف الوقائع التاريخية تجاه الشخصية ذاتها، وهي تخرج من بطون الكتب التاريخية الى الشاشة لتفقد شيئاً من قدسيتها، خصوصاً أن النسخة التي يشتغل عليها نجدت أنزور، تحاول مقاربة الحاضر باستخدام "الدبابات"، و"الحوار عبر الانترنت" مع المشاهدين في نهاية كل حلقة، فيما يظل صلاح الدين في النسخة الثانية، في زمن السيوف والدروع والسهام! وماذا الآن لو أن مصطفى العقاد حقق حلمه القديم في انجاز فيلم عن "صلاح الدين الأيوبي"؟ وماذا نقول عن النسخة الايرانية التي كتب لها السيناريو الروائي السوري قمر الزمان علوش، هذا اذا تجاهلنا النسخة السينمائية التي حققها يوسف شاهين في فيلم "الناصر صلاح الدين"، في أوائل الستينات؟! الاشكالية ذاتها، سوف تواجه المتلقي العربي، حين ينجز مسلسل "أسمهان"، بعد أن وافقت عائلة المغنية الراحلة على تقديم صورتها على الشاشة، والسؤال هنا: كم يبقى من سيرتها الغامضة، بعد اشتراط العائلة، التأكيد على ابراز "دورها الوطني"، وحذف كل ما يهز صورتها المتداولة في الأذهان والوثائق التاريخية؟ ربما كان أخطر ما يواجه مثل هذه الأعمال، اختصارها المسافة الى حدود التماهي بين ما هو درامي، وما هو اعلامي، إذ تسيطر الأمثولة على كل ما عداها من حقائق واعترافات وشهادات، حيث يتجاوز الأمر روح الشخصية الدرامية نحو النبرة الخطابية والوعظية والاخلاقية، وتأطير حياة هذه الشخصية أو تلك بماء الذهب واغفال ما يسيء الى "المانشيت" المعلن. قلق والآن بعد هذا كله سيكون علينا أن نستعد لتأطير شخصية "المتبني"، التي سوف يجسدها على الشاشة "سلوم حداد" عن نص لممدوح عدوان ويحمل توقيع المخرج هيثم حقي، بكل ما في ذلك من مجازفة في تظهير صورة هذا الشاعر التراجيدي الذي قال مرة "على قلق وكأن الريح تحتي"، وأعتقد أننا نعيش القلق ذاته، ونحن نفتقد الى الصورة الأصلية لهذه الشخصيات، ونتفرج في الوقت ذاته على شخصية واحدة بصور مختلفة ومتباينة، وكأننا أمام مرآة مهشمة، أطاحها زمن مفتت وذاكرة عرجاء!