لم ينه القانون السوري الذي صدر في حزيران يونيو من العام الجاري وقضى بمنع جمع الاموال، القلق الذي ساد اوساط المدخرين وصغار المستثمرين خصوصاً في شمال البلاد، مع ان القيمين على تنفيذ القانون بدأوا اتخاذ بعض الخطوات العملية التي كان آخرها ما فعله رجل الاعمال الحلبي محمد كلاس، صاحب اكبر شركة للاتجار بأموال المدخرين، عندما بدأ قبل ايام بتوزيع اشعارات على المدخرين عارضاً عليهم اما المساهمة في شركاته العشر والانتظار الى حين دخولها الى سوق لتداول الاسهم لم تؤسس بعد، وإما سحب اموالهم في غضون سنة من تاريخه وفق نص القانون. وعلى رغم مرور نحو خمسة اشهر على صدور القانون فإن الاجراءات الفعلية لم تتعد صدور بيانات رسمية في الصحف وتوزيع الاشعارات. وكانت الازمة انفجرت في شهري آذار مارس ونيسان ابريل الماضيين عندما تجمهر نحو عشرين ألف مدخر امام مقر الشركات خاصة في حلب شمال البلاد، حيث توجد اكبر شركات الادخار. وصارت مسألة اعادة اموالهم او قسم منها الهم الاساسي لهم، لأن معظمهم باع بعض ممتلكاته لقاء ايداع ثمنها لدى احدى هذه الشركات للافادة من الفائدة العالية التي توفرها، قياساً لأي عمل استثماري آخر، اذ انها تجاوزت 36 في المئة ووصلت في بعض الاحيان الى 60 في المئة سنوياً على المبالغ الضخمة المودعة في الشركة، مع انهم تخوفوا من تكرار تجارب سابقة كما حصل في الثمانينات مع بسام خربوطلي صاحب شركة "راني" الذي أفلس وغاب مع بلايين الليرات السورية، ومع آخر في ادلب شمال البلاد الذي ضيع على مواطنين 400 مليون ليرة سورية الدولار يساوي 50 ليرة سورية. اضافة الى كون هذه الشركات تفتقد الى الشفافية في التعامل وتعطي فوائد، وصفها خبير اقتصادي ل "الوسط" بأنها تشبه "القفزات النوعية" التي يحققها عمل "غير شرعي في تجارة سوداء". وتعود مغامرة المدخرين في ايداع نقودهم، الى اسباب كثيرة منها، عدم وجود شرعية لتداول الاسهم في سورية مع ان الحكومة وعدت اكثر من مرة بوضع هذه الشرعية وقدمت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية مشروع انشائها في دمشق، وانخفاض معدل الفوائد في المصارف العامة الى حدود تبلغ في افضل حالاتها 12 في المئة، اي اقل من معدل التضخم الذي يتراوح ما بين 15 و20 في المئة. وابعاد صغار الكسبة والمدخرين عن العمل الاستثماري الذي ظهر اخيراً في سورية، اثر صدور قانون تشجيع الاستثمار، لأنه شرط للموافقة على اي مشروع استثماري ان يبلغ الحد الادنى لرأسماله عشرة ملايين ليرة سورية. وانخفاض رواتب العاملين في القطاع العام قياساً الى مستوى المعيشة والبحث عن مورد آخر للعيش، اضافة الى "الانفتاح الاقتصادي" واعطاء دور اكبر للقطاع الخاص في العملية الاقتصادية، وبالتالي فإن ما يحصل في سورية شهدته مصر بعد توقيع اتفاق سلام مع اسرائيل، عندما ظهرت شركة "الريان" ومجمعات "السعد" و "الشريف" و "الهدى" التي جمعت اكثر من 12 بليون دولار اميركي من نحو 2.5 مليون مصري حسب ارقام رسمية نشرت في سورية. ويضيف خبير اقتصادي سوري ل "الوسط" اسباباً اخرى، منها "انتشار فهم خاطئ لمبادئ الشرعية الاسلامية في مجال معنى الربا وصلتها بالاستثمار لدى المصارف الحكومية ونيل فائدة محددة سلفاً منها، وقصور الفكر الاقتصادي عند المواطنين بطرائق الاستثمار المجدي، وارتفاع معدلات الارباح لدى هذه المؤسسات". وبدت مسألة ايجاد المبررات الدينية لهذه الاعمال كموجه اساسي للمدخرين، لأن الظاهرة أخذت بعداً اجتماعياً - دينياً وانتشرت اساساً في المجتمعات المحافظة، كما ان اصحاب الشركات استفادوا في توظيف هذا العامل. وظهر ذلك في تعليق اصحاب المؤسسات لآيات قرآنية على جدران مكاتبهم وتركيزهم على الخطاب الديني. ويقول احد العاملين في شركة "انس للتجارة" ل "الوسط" ان المتعاملين مع الشركة "لا يؤمنون بمبدأ الفائدة السنوية لأنها حرام في ديننا الاسلام، فيما تخضع ارباحنا للشريعة، فهي تزداد وتنقص". وأدت هذه الاسباب الى تجميع الشركات لحوالي عشرين بليون ليرة، أعلن منها الى الآن عشرة بلايين. وتأتي في مقدمة المؤسسات "انس للتجارة" و "مؤسسة مصطفى امينو" و "مؤسسة مصطفى كلاس" و "شركة عبدالهادي عجم" و "شركة الشرق لصناعة الزجاج". وتشمل نشاطاتها العمل الصناعي والتجاري بكل اشكاله والسمسرة، وامتلاك العقارات الذي ادى الى زيادة في اسعارها في حلب تحديداً نحو 200 في المئة خلال سنتين، وهي عادت واستقرت الآن بعد توقف هؤلاء عن الشراء بسبب تقديمهم البيانات وانتظار معرفة مستقبلهم. ويذكر ان قيمة العقارات المسجلة باسم "انس للتجارة" تجاوزت 1.8 بليون من اجمالي قيمة الممتلكات العائدة لها والبالغة 8.4 بليون ليرة. وقال الحاج كلاس مالك "انس للتجارة" ل "الوسط" ان عدد المدخرين انخفض من 79 الف مدخر الى 58 الفاً بسبب الازمة "دفعنا فيها 1.5 بليون ليرة خلال ايام"، وأضاف ان قيمة مساهمتهم بلغت 7.3 بليون ليرة من اجمالي الرساميل العاملة التي تبلغ قيمتها 8.4 بليون ليرة، وان اكثر من 60 ألف عائلة كانت تعيش على "الارباح" التي قدمها اثناء عمل الشركة، واتجه الى "تفعيل العمل، على عكس آخرين، وسعينا الى تأسيس مصانع رسمية وفق قانون الاستثمار رقم 10" وهي معامل صناعة الجينز والخياطة القطنية، والمسامير والبراغي، وبلغت كلفتها نحو 1.5 بليون ليرة. وتوقع كلاس "انسحاب عدد كبير من شركتنا في الفترة الراهنة، لكن عدد المدخرين سيكون أكبر بعد اعلان مؤسستنا كشركة مساهمة" ونفى ان يكون اقترب من الافلاس في بداية العام الجاري و "لن نقترب من ذلك، والذي أشاع المسألة مغرض، لكن اقبال الناس على سحب اموالهم ادى الى دفعنا 1.5 بليون ليرة وخفض السيولة في مؤسستنا، وفي الواقع لا يوجد مصرف في العالم يستطيع اعادة الاموال في ليلة وضحاها". وأكد صاحب اهم "شركات الظل"، انه سيكون "اول مؤسسة تدخل الى سوق تداول الاسهم التي وعدنا بها قريباً جداً". غير ان الحديث عن انشاء هذه السوق طالما تردد، من دون خطوات فعلية، ما يعني ان معالجة نتائج الظاهرة باصدار القانون الذي حمل الرقم 8، من دون معالجة اسبابها سيترك الباب مفتوحاً امام استمرار المشكلة بأشكال مختلفة، مع ان التوجهات الرسمية طلبت حل المشكلة نهائياً".