أبرزت وكالات الانباء العالمية أخيراً نبأ وضع آية الله حسين منتظري خليفة الخميني السابق قيد الاقامة الجبرية. والخبر من حيث دلالته المباشرة لا ينطوي على تغير كيفي مهم في وضع أحد أبرز آيات الله في ايران ومن اكثرهم تفقهاً في الدين، ذلك ان منتظري كان يخضع بالفعل لتحديد اقامته في مدينة قُم منذ قرابة عامين، وربما تمثلت الاضافة الوحيدة التي انطوى عليها القرار في حرمان منتظري من حقه في القاء الدروس الدينية حيث يقيم. بيد ان لمثل هذا الخبر دلالته المهمة غير المباشرة التي تكشف عن بعض جوانب التفاعل بين القوى السياسية الايرانية، كما انه يرتبط بمجموعة من التساؤلات التي يمكن أن تثار حول آثاره المحتملة على التوجهات الخارجية لايران، وهذا هو ما سنحاول ان نوضحه في هذا المقال. منذ وفاة الخميني قبل ما يقرب من أربعة اعوام وربما أسبق من هذا التاريخ، عرفت ايران مستويين اثنين من مستويات الصراع بين مكونات نخبتها الدينية والسياسية. المستوى الأول هو الصراع بين علي خامنئي المرشد الحالي للجمهورية الاسلامية وحسين منتظري، ذلك ان قطاعاً لا بأس به من رجال الدين الايرانيين لم يعترف في قرارة نفسه بصلاحية تنصيب خامنئي مرشداً للجمهورية، وحاول في أكثر من مناسبة اعلان بيعته لمنتظري ودعوته ليتبوأ خلافة الخميني. وكانت الحجة الجاهزة التي استخدمها جناح خامنئي، في مواجهة التشكيك بأهليته الدينية، هي ان قرار تنحية منتظري كان قرار الخميني نفسه ومن ثم فانه أياً كان عدد مؤيدي منتظري ومواقعهم في جهاز الدولة او في هيكلها الديني، فان خامنئي هو الذي يحظى بمباركة الخميني. واعتباراً من تاريخ وفاة ابو القاسم الخوئي في آب اغسطس الماضي وخلو المرجعية الشيعية العليا بدأ صراع خامنئي - منتظري يتخذ ابعاداً جديدة. فلقد اتفق الرجلان على ان ايران وليس العراق ينبغي ان تكون المقر الجديد للمرجعية الشيعية، لكنهما اختلفا بعد ذلك على شخص المرجع الاعلى، وساعد في خلافهما ان منتظري فسر سعي خامنئي الى جعل اختيار المرجع الاعلى للشيعة عن طريق التعيين وليس الانتخاب بأنه نوع من التحايل على الشروط الدينية المطلوبة للمرجعية تمهيداً لشغله هذا المنصب الرفيع. المستوى الثاني للصراع هو الصراع بين علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني رئيس الدولة، وهو صراع بدأ في حياة الخميني واستمر بعدها، وتحرك ميزان القوة بين جناحيهما في غماره حركة بندولية جيئة وذهاباً، واعتباراً من عام 1992 بدأ جناح خامنئي الموصوف بالتشدد يشهد صعوداً واضحاً في قوته، جسّدته المظاهر الآتية: 1 - تصاعد نغمة الحديث عن ضرورة الحفاظ على "النقاء الثوري" عن طريق شن حملة تطهير واسعة شملت اجهزة ومؤسسات الدولة للتخلص من العناصر "الفاسدة" و"الليبرالية". وفي اطار تلك الحملة تم التخلص، على سبيل المثال، من وزير الثقافة الاسلامية والارشاد محمد خاتمي بسبب توجهاته المتحررة على رغم كونه سليل اسرة دينية معروفة، كما تم اعتقال 113 الف شخص خلال عام واحد من الرجال والنساء بتهمة مخالفة المبادئ العامة للاخلاق، وذلك حسب الارقام الواردة في تصريح رسمي لحسين رحماني مسؤول قوى الامن الايرانية. 2 - تضخم وتعدد الاجهزة الامنية الايرانية اللازمة لتحقيق هذا "النقاء الثوري" وذلك على نحو بات يصعب معه تحديد الصلة بينها. فقد سمعنا عن "شبيبة المتطوعين" وعن "قوات القانون والنظام" وعن تنظيمات اخرى، اضافة الى الحرس الثوري. ومن المعلوم انه بعد وفاة الخميني دار جدل حاد حول فكرة دمج الحرس الثوري في الجيش النظامي، وهي الفكرة التي تصدى لها خامنئي في حينها الى ان تمكن رفسنجاني من اخراجها الى حيز الوجود في عام 1991. ولكن بعد اقل من عام واحد بدا واضحاً ان هذا الدمج اصبح كأنه لم يكن، وقد بدأ الامر ببروز دور الحرس الثوري كجهاز مستقل عن الجيش يدين بالولاء لخامنئي، وتطور الى ظهوره كعنصر مناوئ للجيش من خلال صراعه معه على الممتلكات، وانتهى ليبدو وكأنه غدا وريث الجيش نفسه، ويرتبط بهذه النقطة الاخيرة التوسع في تسليح وتدريب رجال الحرس الثوري بشكل لافت للنظر، فلقد اعلن قبل بضعة اشهر عن اتفاق بين الصينوايران على التعاقد على تزويد الحرس الثوري بقائمة طويلة من الاسلحة شملت 38 طائرة مقاتلة وعشر قواعد صواريخ أرض - أرض، وأرض - بحر س.إس.إس 2، وسيلكوورم، و400 دبابة، و400 قطعة مدفعية، وأربع قطع بحرية وكميات اخرى من العتاد، الامر الذي ينذر بتحول عناصر هذا الجهاز من حراسة مبادئ الثورة في الداخل الى حماية حدود الدولة. 3 - "تحايل" خامنئي على تهميش دور البرلمان ذي الاكثرية الموالية لرفسنجاني عن طريق تشكيله لمجلس من مؤيديه يتولى الفصل في القضايا محل الخلاف بين البرلمان ومجلس الرقابة على الدستور. 4 - اخيراً وكنتيجة لما سبق، الفشل في تحقيق التحول بالاقتصاد الايراني من اقتصاد حرب قائم على المبادئ الاشتراكية الى اقتصاد ليبرالي يتبنى مبادئ السوق، حيث انه لا زال هناك ما يقرب من 80 في المئة من النشاط الاقتصادي الايراني مملوكاً للدولة. مرونة رفسنجاني في ضوء هذا التحليل يمكن تفهم الخلفية التي تشكلت ونفذت فيها فكرة الانقلاب على منتظري، ذلك ان رفسنجاني، وهو يستعد لخوض غمار معركة الانتخابات الرئاسية في حزيران يونيو المقبل يدرك تمام الادراك انه لا يملك رصيداً كبيراً من الانجاز السياسي او الاقتصادي، يؤمنه بالضرورة على نتيجة الانتخابات. فعلاوة على تدني مستويات العيشة وانخفاض دخل الاسرة لأقل من نصف نظيره في عام 1977، شهدت ايران، لا سيما عام 1992، تصاعداً ملحوظاً في نشاط جماعات المعارضة السياسية احتجاجاً على سياسات النظام الحاكم. من هنا، فان رفسنجاني لم يكن يملك التضحية بخامنئي عميد المؤسسة الدينية في ايران والمرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية والذي قد يكون له سند قوي في معركته الانتخابية. لذلك بادر رفسنجاني بالتوسط بين خامنئي ومنتظري عقب اشتباك انصارهما في مدينة قُم، قبل ان يتخلى عن حياد الوسيط ويتخذ، بالاشتراك مع خامنئي، قرار الانقلاب على منتظري في تكتم شديد. والواقع ان تلك المرونة البالغة في الحركة السياسية تعد واحدة من أهم الخصائص المميزة لهاشمي رفسنجاني فهو يجيد لعبة توظيف خلافات الخصوم ويستفيد منها في تحقيق مآربه، ولعل افضل تعبير قيل في وصف براغماتية رفسنجاني هو ذلك الذي اعتبر انه يمثل "الرجل الذي يجمع الاضداد ويستثمر الضد في خدمة ضده" وان كان البعض الآخر يجد ان رفسنجاني لا يعبر عن خصوصية معينة انما يعكس بعض الصفات الايرانية العامة والتي من اهمها القدرة على اخفاء الحقيقة والسعي الحثيث في طلب المصلحة. بيد ان السؤال الأساسي الذي يثيره التعرف على خلفيات الانقلاب على منتظري هو الآتي: هل يعني ما سبق اننا مقبلون على مرحلة يفرض فيها جناح خامنئي، بما عرف عنه من تشدد، رؤيته الخاصة في السياسة الخارجية كما فعل من قبل في السياسة الداخلية؟ بمعنى آخر: هل نحن مقبلون على انكفاءة ايرانية جديدة على الذات او على تشنج ايراني لفرض الهيمنة؟ تساؤل يشكل لبّ اهتمامنا كعرب. محاور السياسة الخارجية هناك قيدان أساسيان يحكمان التخطيط للسياسة الخارجية الايرانية، سواء ظل رفسنجاني هو حاكم ايران القوي أو تحول الى مجرد واجهة لحكم الموصوفين بالتشدد. القيد الأول هو استحالة الانكفاء على الذات، فايران داخلة في شبكة واسعة من التعاملات الاقتصادية القروض، الاستثمارات، المبادلات التجارية مع الكثير من دول العالم، ومن ثم فانها لا تملك اتخاذ قرار الانعزال من طرف واحد. كما انها لا تملك بالقدر نفسه ان تفصل بين الاقتصاد والسياسة، بحيث تعزل عن العالم سياسياً وتنفتح عليه اقتصادياً. القيد الثاني هو ان ايران توقن تمام اليقين انها مهما تضخمت موازنتها العسكرية ومهما لهثت وراء ابرام صفقات السلاح مع دول من الشرق والغرب فهناك خطوط حُمر لن يسمح لها بتجاوزها. ولعل من المفيد ان نتذكر في هذا المقام مجموعة الوثائق التي صدرت عن بعض المؤسسات الاميركية، وفي مقدمتها وزارة الدفاع العام الماضي، والتي انطوت على تأكيد حق الولاياتالمتحدة في اتخاذ كل الوسائل المناسبة لحماية مصادر النفط والممرات المائية حال تهديدها. بل وذهب بعضها الى وضع سيناريو للحل العسكري الاميركي المقترح في هذه الحالة. وأهمية تلك الوثائق هي انها توضح ان الولاياتالمتحدة، ومن ورائها دول التحالف الغربي، جاهزة لأعمال حتى الدفاع عن النفس في أية لحظة، ليس فقط لمواجهة محاولات الهيمنة والسيطرة ولكن كذلك في ما يتعلق بقضايا الارهاب وحقوق الانسان والموقف من الصراع العربي - الاسرائيلي. وبناء على القيدين الواردين على السياسة الخارجية الايرانية، فان استمرار الانفتاح على الخارج في اطار الاستفادة من منطق توظيف الاضداد يكتسب درجة معينة من الارجحية، وهذا ما يمكن ان نلمسه من خلال المحاور الثلاثة الآتية: 1 - المحور الأول: هو محور القوى الكبرى، وفي حدود الامد المنظور ستظل علاقة ايران بتلك القوى محكومة بمجموعة كبيرة من الثنائيات، بمعنى ان يجري التمييز بين العلاقة مع الولاياتالمتحدة وجوهرها العداء والخصومة من جهة، والعلاقة مع روسيا وجوهرها التعاون والتنسيق من جهة اخرى. ومن المتصور انه بقدر ما تتوتر العلاقات الاميركية - الغربية عموماً بروسيا من جراء قضية المساعدات الاقتصادية، بقدر ما يستنفر ذلك روح التحدي عند الطرف الروسي ويدفعه الى تزويد ايران بمزيد من السلاح. وعلى مستوى آخر سيستمر التمييز في الذاكرة الجماعية الايرانية قائماً بين دولة كفرنسا مثلت رمزاً لتحدي الهيمنة الاميركية عندما حضنت الخميني، وبين دولة اخرى مثل بريطانيا جسّدت البقية الكاملة للولايات المتحدة. ذلك لا ينفي ان تطوراً انقلابياً قد يحدث ويعيد ترتيب تلك الثنائيات على نحو مختلف فيعاد النظر في العلاقات الايرانية - الاميركية مثلاً وتمد ايران جسوراً للتفاهم مع القطب الاعظم للعالم، وهي راغبة بشدة في ذلك على رغم كل الطنطنة الاعلامية التي توحي بالعكس. 2 - المحور الثاني: هو محور شرق وجنوب شرقي آسيا، وستظل هناك مشكلتان رئيسيتان تحكمان طبيعة التحالفات والسياسات الايرانية تجاه دول المنطقة، المشكلة الأولى هي المشكلة الهندية وهي مرشحة للتفاقم يوماً بعد يوم لأنها، باختصار، تملك كل اسباب التفجير من الداخل، فمع تزايد شدة الفقر وبروز ازمة الحزب الاكبر يجري الاحياء للديانتين، الاسلامية والهندوسية، ومن هنا، فان واقعة هدم مسجد بابري الشهير ليست سوى ناقوس خطر لمرحلة اكثر صعوبة، ولفترة من الوقت، ربما فكرت ايران في الهند كموازن للنفوذ الباكستاني الاقليمي، لكن التحدي الجديد الناجم عن تدهور وضع المسلمين داخل الهند يفرض عليها موقفاً مغايراً حرصاً على صدقيتها الدينية في العالم الاسلامي. والمشكلة الثانية هي المشكلة الافغانية، وهي بالنسبة الى ايران مشكلة داخلية واقليمية في آن معاً، واذا كانت ايران شهدت خريفاً ساخناً في العام الماضي بتمرد الاقلية البالوشية على حدودها مع باكستان فقد كان ذلك مؤشراً لأحد المخاطر الداخلية الاساسية التي قد تواجهها، في حالة تفكك الدولة الافغانية، لكن المشكلة الافغانية لها ايضاً أبعادها الاقليمية، ليس فقط لأن استمرارها يجهض الحلم الايراني في تكوين السوق الاسلامية المشتركة، ولكن - وهذا هو الاهم - لأن تفاقمها قد يغري بعملية جديدة "لاعادة الأمل" من جانب دول التحالف، ومن هنا فان ايران ربما كانت غير راضية تماماً عن ولاية رباني، لكنها اكثر حرصاً على استقرار الاوضاع الافغانية بممارسة الضغط على انصارها لالقاء سلاحهم. يتداخل ذلك ويتماس مع تحرك ايران باتجاه غرب آسيا الصين ووسطها الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة لاقامة شبكة متينة من الروابط العسكرية والاقتصادية والثقافية تعينها على مواجهة مستجدات الوضع في تلك المنطقة. 3 - المحور الثالث: هو محور المنطقة العربية، ولايران ركيزتان اثنتان على الاقل فيها هما سورية والسودان. لكن المعضلة الاساسية هي ان اياً من هاتين الدولتين لا تملك تأثيراً يعتد به على الاوضاع في منطقة الخليج التي تشكل المنطقة الاهم بالنسبة الى ايران، ومن هنا، وفي مواجهة تدهور العلاقات الايرانية - الخليجية على مدار 1992 لجأت ايران الى التلويح بورقة العراق وفي الوقت نفسه صدرت عن مسؤوليها تصريحات تنفي تطلعهم الى أية مكاسب اقليمية في دول الخليج. ولكن قضية احترام الحدود السياسية لا تكفي فيها مجرد النوايا الحسنة ولا التصريحات الديبلوماسية، ووضع الجزر الاماراتية الثلاث لا زال معلقاً حتى الآن. إن الانقلاب على منتظري يعد نموذجاً مثالياً للكيفية التي تدار بها الصراعات الداخلية في ايران. وحتى اشعار آخر، فلا زال تطبيق هذا النموذج على الصعيد الخارجي قادراً على ان يشق للجمهورية الاسلامية طريقاً في عالم يعج بصراعات دوله. * خبيرة في شؤون ايران والعالم الاسلامي واستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة.