الدكتور بطرس بطرس غالي الامين العام للامم المتحدة صاحب ارفع منصب دولي، قال ذات مرة انه لم يكن تلميذاً مجتهداً في صباه. وان احتمال فشله في دراسته كان قائماً بنسبة 90 في المئة. وعلى رغم ذلك فإن الرجل لم يصل الى منصبه بين يوم وليلة. كصحافي، كنت استطيع ان ارفع سماعة الهاتف لاتصل بمنزل الدكتور بطرس غالي في اي وقت، فيرد هو عليّ، ما دام في بيته، من دون ان اصطدم بآلة التسجيل. وقد ظل رقم هاتفه كما هو بلا تغيير كما يعتاد المشاهير في مصر، حتى عندما جرت بعض التطويرات على الخدمة الهاتفية في مصر لجهة تغيير ارقام الهاتف في عدد كبير من المنازل. وتلك البساطة التي قلما نجدها مع شخص اخر من المعروفين، هي نفسها التي كنت اصادفها مع المرحوم الدكتور وحيد رأفت، رئيس حزب الوفد السابق، وخبير القانون الدولي المعروف، وهي نفسها التي كنت اتعامل بها مع استاذي المرحوم الدكتور محمود خيري عيسى، استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الذي كان يعلمنا بعض مفاتيح هذا العلم المعقد في مدرجات كلية الاعلام، وهي نفسها البساطة التي تذكر عن الراحل الدكتور محمد عبدالله العريان، العضو السابق بمحكمة العدل الدولية. هذا هو جيل الدكتور بطرس غالي، جيله الرقيق، وهؤلاء هم اصدقاؤه الذين قال في اكثر من لقاء انه يعتز بهم. ابناء بيوت عريقة، نشأوا في بيئات متميزة، أفرزت تربية اكثر تميزاً. كان بطرس غالي، وما زال بالطبع، ابن بيت عريق في حياة مصر، ساهم في الحكم وصنعه منذ ما يزيد على قرن من الزمان. بداية من المعلم غالي، وزير المالية في عهد محمد علي، والي مصر، اعتباراً من عام 1805، ثم غالي ناروز، مدير الخاصة الملكية، وحتى الجد بطرس غالي، رئيس الوزراء، الذي قتل في مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، ثم واصف غالي، العم، وزير الخارجية، والعم الثاني نجيب غالي وزير الزراعة. 18 شارع الحكيم بالفجالة: هذا هو العنوان حيث كانت تقيم هذه الاسرة العريقة، التي يمكن القول انها الاسرة القبطية الوحيدة التي استطاعت ان تواصل مسيرتها في العمل الوطني بلا توقف، وحيث الفجالة الحي الاكثر ذخراً بالاقباط في القاهرة شارع دير الملاك وشبرا. هنا كانت السراي العريقة، المكونة من عشرات الغرف، كما يقول لپ"الوسط" رؤوف بطرس غالي شقيق الامين العام للامم المتحدة، الذي يملك ويدير احدى كبريات شركات السياحة في مصر، ويضيف: "اننا تركنا هذا البيت منذ سنوات بعد ان استقل كل منا بحياته، وصار المنزل ملجأ للمعوقين، مقابل اجر رمزي مقداره جنيه واحد في السنة". وقفت امام هذا البيت في ذلك الشارع المتفرع من شارع الفجالة الرئيسي، حيث تنتشر جنباً الى جنب دكاكين ودور نشر الكتب المدرسية، ومحلات بيع الادوات الصحية، وحيث يمر قطار حديث فوق قضبان لم يتغير موقعها منذ زمن بعيد، عندما كانت هذه المنازل حقولاً تتناثر فيها القصور، وبعض الكنائس، والمدارس الاجنبية. الملجأ له حديقة كانت جميلة، ومدير اسمه محمود عدلي، سعيد بفوز بطرس غالي بهذا المنصب المرموق دولياً، ولكنه لا يعرف شيئاً آخر عن البيت سوى انه لعائلة يذكرها الناس بالخير من حوله. يقول رؤوف غالي: "كان للقصر عدد كبير من الصالات الواسعة، اقتربت فيها الفروق العمرية بيني وبين شقيقي الاصغر واصف - اقل بسنتين - وشقيقي الاكبر بطرس - اكبر بثلاثة اعوام. وفي اركان هذه الصالات كنا نهرب من المربية الالمانية التي كانت تسبب لنا العديد من المشاكل مع والدتنا. وكان شقيقي الدكتور بطرس غالي، شخصاً مرحاً، يحاول دائماً الهروب من هذه المربية. وقد ضبط اكثر من مرة وهو عائد من نزهة بالدراجة، بعد ان تمكن من مغافلة حارس بوابة القصر". وحسب ذكريات رؤوف غالي فإن النظام الذي كان متبعاً في البيت هو ان يكون لكل ابن مدرّس خصوصي في كل عام دراسي، واحد للغة العربية وآخر للجغرافيا وثالث للرياضيات. في هذا البيت كانت امنية اغلب الابناء ان يصبحوا وزراء، كانوا يظنونها مهناً مثل المهندس والطبيب. وكانت السراي الكبيرة غارقة حتى اذنيها في السياسة، ووفقاً لما قاله الدكتور بطرس غالي "فإن البيت كان يتحول في بعض الاحيان الى مقر انتخابي لاحد ابناء العائلة". ويضيف: "رشح ابن عمي نفسه، وجعل عنوانه الانتخابي على سراي شارع الحكيم، فقمت بالدعاية له، ولصقت الاعلانات على جدران الحواري، وراعيت من يصاب من المؤيدين في التظاهرات الانتخابية". ويقول رؤوف غالي: كنت احب "تيته ام الباشا" - الجدة، التي كانت تكره بشدة افعال السياسة والاعيبها بعد ان اغتيل الجد - بطرس غالي - رئيس الوزراء عام 1910 لاسباب سياسية. في صباه انتقل بطرس غالي الى المرحلة الاخرى، عرف فيها مجموعة من الشباب اللاهي الذي لم يحصل اي منهم على البكالوريا - شهادة الثانوية العامة - كان منهم ابراهيم احمد المانسترلي، جمال ابو اصبع، وابناء عائلة صيدناوي، وهي من الاسر اليهودية في مصر التي كانت تملك مجموعة من المحلات التجارية التي اممت بعد ثورة 1952، ولكن الذي انقذه هو حبه للمعرفة، وادمانه في تلك السن على قراءة كتاب كل اسبوع وكتابة تلخيص عنه، لذا التحق بمدرسة الحقوق حتى يحقق امنيته في ان يكون وزيراً. فقد كان اغلب وزراء مصر من خريجي الحقوق". ويقول رؤوف غالي، عن اخيه الامين العام للامم المتحدة: انه منذ التحق بمدرسة الحقوق "وهو يصر على ان يكون شخصاً متميزاً، بدا لي وكأنه يعرف طريقه بوضوح، وبلا لبس". وهو نفسه ما تقوله تلميذة الدكتور بطرس غالي الدكتورة حورية مجاهد، رئيسة قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة، وعضو مجلس الشعب: "دكتور بطرس غالي لم يكن استاذاً فقط، كان معلماً وموجها، يتميز بأنه عالم وباحث جيد، لا يبخل بأي شيء في توجيه طلابه". "مستعد" منذ 30 عاماً والدكتور غالي من مواليد القاهرة 14 تشرين الثاني نوفمبر 1922، حصل على ليسانس الحقوق عام 1945، ثم دبلوم معهد العلوم السياسية، ثم دكتوراه في القانون الدولي من جامعة باريس عام 1949 عن المنظمات والاقليات، ثم اشترك في تأسيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة. وفي قسم العلوم السياسية كان هناك الدكاترة احمد عبدالقادر الجمال، سويلم العمري، وابراهيم صقر، عبدالملك عودة، وأحمد فتح الله الخطيب… مفكرون لهم قيمتهم الكبرى. برز بينهم الدكتور بطرس غالي باهتمامه بدارسة العلاقات الدولية، والتنظيم الدولي والقانون الدولي. الى درجة ان احد تلاميذه، محمد العزب موسى، وهو الآن محرر بجريدة "الاخبار" كتب بعد فوزه بمنصب الامين العام: "كان الدكتور غالي يدرسنا مادتي الديبلوماسية والمنظمات الدولية في معهد العلوم السياسية.. وكنت اعجب به للغاية، يقسم الدرس الى مقدمة وجوهر وخاتمة، ويقسم الجوهر الى قضايا لكل منا آراء فيها… ويستعين في الشرح بلوحة الحائط التي تتطاير الطباشير من عليها لتستقر على وجهه وزجاج نظارته. كنت اراه يتحدث عن الاممالمتحدة وكأنه يعرف المبنى غرفة غرفة، ويحفظ كل ممر فيه.. وقاطعته ذات مرة قائلا: اعتقد انك تعرف الاممالمتحدة اكثر من همر شولد - الامين العام للامم المتحدة في ذلك الوقت - واعتقد انك اكثر استعدادا لأن تشغل منصب الامين العام، فضحك بطرس غالي وقال: "وانا مستعد"! عمر هذه الواقعة اكثر من ثلاثين عاما… كان بطرس غالي فيها يبدو وكأنه ينتظر هذا المنصب بالفعل، او على الاقل تجري الاحداث وكأنها في طريقها الى ذلك، حتى انه رفض ذات مرة ان يصبح الامين العام لمنظمة اليونسكو حتى لا ينافس احمد مختار امبو، الافريقي، او ان يكون امين منظمة العمل الدولية. وخلال هذه السنوات الطويلة عمل بطرس غالي استاذاً في اكثر من جامعة في العالم: كولومبيا، في نيويورك، وجامعات اخرى في فرنسا وسويسرا، وعمل في جمعيات مصرية عديدة متخصصة في القانون الدولي، والمنظمات الدولية، واختير رئيسا لجمعية اساتذة القانون الدولي في لاهاي، ومنحته جامعة ديكارت الفرنسية الدكتوراه الفخرية. وتقول تلميذته الدكتورة حورية مجاهد: "اعتقد انني اول طالبة حصلت على ماجستير في العلوم السياسية تحت اشراف الدكتور بطرس غالي. كان موضوع الرسالة "الصومال في المحيط الدولي". عرفته مشرفا امينا، يوجه ويشطب، وفق تقدير موضوعي، ويقدر الجهد المبذول والعمل المضني. وخلال تلك السنوات عرفته باحثا متميزا، يسير في خط مستقيم، يعرف ماذا يريد من نهايته، لا ينشغل بالصغائر، ولا يقع في فخاخ اختلافات الجامعة، ولا يستسلم لأساليب الضرب تحت الحزام. عندما فاز سرت حالة من التفاؤل والسعادة في قسم العلوم السياسية بالكلية لأن الدكتور بطرس يمثل اتجاه المحافظة على القيم". وتضيف تلميذته: "الدكتور بطرس غالي كان ديبلوماسياً وهو في الجامعة، يعنف طلابه اذا تحدثوا عن رؤساء الدول من دون القاب. كان يقول: "يجب ان تصروا على الموضوعية من الآن"، كان يصر على الا يتحدث معنا الا بعد ان يغلق "ازرار الجاكتة"، انه رجل مبادئ، انسان راق". لكن للدكتور بطرس غالي صفات اخرى كثيرة، انه مثلا لا يحب ان يرى العصافير وهي حبيسة الاقفاص، ولهذا السبب فان بيته الذي تزدحم جدرانه باللوحات والقطع الفنية، لا يوجد بين جنباته قفص فيه عصفور او اي نوع من الطيور. ولا يبعد هذا كثيرا عن تحركاته العديدة على المستوى الافريقي، ونضاله ضد ان يظل نلسون مانديلا سجيناً. تقول حورية: "للدكتور بطرس غالي بصماته المهمة في افريقيا، انه يحب هذه القارة، وقد قال بطرس غالي في تصريحات صحافية قبل انتخابه.. ان افريقيا تمثل ثلث دول العالم، ومن حقها ان تحصل على منصب السكرتير العام في ضوء التحولات الكبرى التي يشهدها العالم منذ سقوط حائط برلين، وهي الآن اصبحت تعاني من مخاطر تهميشها وتهميش مشكلاتها، وهو امراذا تحقق سيؤدي الى اقامة ستار حديدي جديد بين شمال العالم المتقدم وجنوبه الآخذ في النمو". ولا يبدو غريباً ان تكون مؤلفات الامين العام الجديد للامم المتحدة دارت في معظمها عن افريقيا، وعن الاوضاع الدولية، فله 50 مؤلفاً اجنبياً، و14 مؤلفا عربيا، من بينها: "العلاقات الدولية في اطار منظمة الوحدة الافريقية"، "السياسية والتنمية في افريقيا"، "الحركة الافروأسيوية"، "منظمة الوحدة الافريقية"، "التنظيم الدولي"، "دراسات في السياسة الدولية"، "جامعة الدول العربية والمنازعات المحلية"، و"دراسات في الديبلوماسية العربية". عرف الدكتور بطرس غالي طريقه ككاتب في غير المؤلفات - في منتصف السبعينات عندما اسس مجلتين عن مؤسسة الاهرام العريقة هما مجلة "السياسة الدولية" ومجلة "الاهرام الاقتصادي" وفي تلك الآونة كان يكتب في جريدة "الاهرام" مقاله المعروف "من مفكرة الدكتور بطرس غالي".. وكان في اغلبه يدور كل اسبوع حول شؤون دولية وافريقية. ولم يكن غريبا ايضا انه اختير في عام 1977 ليصبح وزير دولة للشؤون الخارجية المصرية خلفا لمحمد رياض، اثناء زيارة الرئيس الراحل السادات الشهيرة للقدس. هذا الرجل صاحب تلك المناصب وهذا التاريخ يذكر عنه اصدقاؤه انه "ابن نكتة" لا تخلو الجلسة معه من ابتسامات، تصل الى ضحكات صارخة، وقد كتب عنه صديقه الكاتب انيس منصور قائلا: "النكتة عند بطرس غالي هي سلاح العقل الذي يريد ان يتخفف من الارهاق. وقد حكى ذات مرة ان سفيرا مصريا جديدا جاء لزيارته قبل ان يسافر لتسلم عمله، وفوجئ به بطرس غالي يتحدث معه في جزاءات العاملين بالسفارة، بدلا من ان يتحدث معه عن سياسة مصر والقضايا المعاصرة والتعليمات الخاصة. وقال بطرس غالي معقبا احسست وكأنني امام مأجور سجن وليس امام سفير". بطرس غالي اذا شئنا اختصار الحكاية هو عبارة عن 69 عاماً، هي خليط من بيت عريق، وجيل متميز، وشخص رقيق، وهدف واضح.