مع انفجار الأزمة المالية العالمية التي جعلت اجتماعات الساسة والخبراء مفتوحة على مدار الساعة فقد كنا نعتقد - أو كاتب هذه السطور على وجه التحديد - أن الدول التي هيمنت على العالم اقتصادياً وسياساً وعسكرياً وعلمياً، وغيرها من المجالات، وضعت الحد الأدنى من القوانين والتشريعات - مهما وصلت درجة حرية السوق المطلقة - مما يحفظ للأسواق والاقتصاد بشكل عام التوازن التدريجي حتى في حالة الانحسار، ولكن لا تصل درجة انهيارها إلى هذا الشكل، وبهذه الطريقة المخزية التي أشبه ما تكون بكارثة طبيعية ليس لهم علاقة بها! وعندما نعود إلى الوراء قليلاً، ونتذكر نصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ووزارات الخزانة في أوروبا وأميركا لدول العالم الثالث، والتخلف الذي تعيشه بسبب سياساتها الاقتصادية والمالية المفروضة عليها، وعندما نقرأ ما قاله"ألان جرينسبان"الذي كان كبش فداء الأخطاء والتجاوزات التي حدثت في المشتقات، وهو يقول:"إن الفشل هو فشل أخلاقي من جانب أولئك الذين يتولون إدارة المشتقات، إذ تضافر الجشع مع عدم المسؤولية والتفريط في الاهتمام بالسمعة"... وقرأنا كذلك ما كتبه"كريستوفر كالدويل"ونشرته صحيفة الإقتصادية"إن رفض الكونجرس الأميركي، ثم موافقته على خطة"بولسون"تقدم رمزاً حياً للفساد في الجهاز التشريعي الأميركي"، وأضاف"إن الهيئات المنتخبة تبدو هيئات فاسدة مرتشية وتفتقر إلى النظام، فبعد أن رفض الكونجرس الأميركي البرنامج الذي اقترحه"بولسون"لإنقاذ الأصول المتعثرة، تم إنقاذ مشروع القرار الخاص بهذا البرنامج ليس من خلال التداول حوله، وإنما من خلال شراء أصوات أعضاء الكونجرس بالاتفاق على مشاريع للكسب السياسي، وهذا كما قال يُعد رمزاً حياً للفساد في الجهاز التشريعي الأميركي"، وبعد هذه الورطة بدأنا نسمع عن خطط إنقاذ وإعلانات تأميم مؤسسات مالية، وكأننا نعيش في القرن التاسع عشر! أرجو ألا نشمر عن سواعدنا ونسخر إعلامنا وأقلامنا للتبرير والدفاع، فهم أخطأوا خطأً جسيماً بحق دولهم وشعوبهم، وبحق العالم كله، ويجب أن يتحملوا هذه الكارثة وتبعاتها، لأنها لم تكن نتيجة أخطاء تقنية أو سياسات مالية فقط، بل متعلقة بأمور مهمة، ومنها الفساد، والفشل الأخلاقي، كما أشار إليه الكثير من الخبراء والمعلقين، والكُتاب من بني جلدتهم. أكتب هذا المقال والإعلام الأميركي مشغول بأزمة وانتخابات، أزمة مالية تتفاقم يوماً بعد يوم إلى الأسوأ، وانتخابات الرئاسة الأميركية التي تشير استطلاعات الرأي إلى تقدم مرشح الحزب الديموقراطي باراك بن حسين أوباما بعشر نقاط على مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين، وإذا سارت الأمور بشكل طبيعي، وبحسب التوقعات، فإن"أبا حسين"سيحقق حلماً وضع أساسه الزعيم التاريخي الأسود مارتن لوثر كينج، وسيفتح الأبواب على مصراعيها للتحول وحقبة جديدة في تاريخ الولاياتالمتحدة الأميركية. سألت صديقاً لي عاد للتو من رحلة عمل في أميركا عن مزاج الشارع والإعلام الأميركيين الانتخابي، فقال تجولت في شوارع بوسطن وشاهدت شباباً بيض يقودون حملة التبرعات لحملة باراك أوباما، وفي أوساط الشبان والشابات بشكل عام هناك حماس واندفاع لتأييد المرشح الديموقراطي، وبدأت صحف أميركية تعلن تأييدها له، وتدعو لانتخابه، ولكن بحسب قول الصديق المتابع للحالة الأميركية لا يزال هناك سلاح العنصرية الخفي الذي يمكن أن يقلب الموازين، خصوصاً في أوساط الرجال البيض الذين لا يزالون يتمسكون بخيار المرشح الأبيض مهما كانت الأوضاع والمبررات... وذكرني هذا الصديق بحالة الرئيس الأميركي السابق جون كيندي، وكيف - وهو الرجل الأبيض - اغتالته أسلحة التعصب الأيديولوجية العنصرية، لأنه كاثوليكي، وهم أقلية وليس بروتستانتياً وهم الغالبية في أميركا! وأعتقد أن الوضع الذي يواجه المرشح الديموقراطي ابن حسين أوباما مشابه للوضع الذي واجهه الرئيس الراحل الأسبق جون كيندي، مع اختلاف الزمان الذي يمكن أن يثبت تطور وتشابه أقلية السود والأقلية الكاثوليكية، وعلى رغم أن الرئيس الجذاب جون كيندي وصل إلى البيت الأبيض، وأُغتيل وهو في سدة الرئاسة، وباراك أوباما لا يزال يعيش وطأة المنافسة وينتظر بعد أيام قليلة النتائج، إلا أن الخوف والقلق في أوساط مؤيديه الذين يعيشون حلم التغيير لا يزال موجوداً وبنسبة مؤثرة، والخوف ليس في صناديق الاقتراع فقط بل من مختلف وسائل الأسلحة العنصرية المقيتة التي تعيشها زعيمة العالم الديموقراطي الحر! جيل متحمس ومندفع للتغيير، وجيل ممسك بحبال المحافظة على تاريخ ومكتسبات التأسيس ولا يرغب في رؤية إعادة كتابة التاريخ وفتح ثغرة جديدة، ربما حسب اعتقادهم ستؤدي إلى إضعاف موقفهم، خصوصاً إذا فاز"أبو حسين"في الانتخابات وحقق نتائج باهرة، ويرون أن المجال مفتوح وكبير لتحقيقها في ظل وجود أخطاء سياسية واقتصادية عميقة خلفها العهد البوشي لثماني سنوات مضت. وسأزيد من خوف وعذاب الجيل الأميركي المتشدق بعنصرية بغيضة وسياسة تعسفية، الرافض لترشيح ابن حسين أوباما، إن العرب والآسيويين والأفارقة سيرفعون له لافتات الترحيب، مدونين عليها مرحباً بك أبا حسين، حاملاً لواء التغيير لرفع الظلم والعدوان، ومؤيداً للحقوق العادلة والسلام، مرحباً بك منهياً حقبة من سياسة الأوامر بغض النظر عن عدالتها، ونيران القذائف الحارقة، على رغم انتفاء مبرراتها، وديبلوماسية المحاور، على رغم سذاجة وبدائية تطبيقاتها، مرحباً بك وسيطاً نزيهاً لحل مشكلات نصبت بلادكم نفسها قاضياً للحكم فيها، مرحباً بك أبا حسين منهياً عهداً إقتصادياً ترعاه العصى السياسية حتى تحول إلى التحكم في مصير أموال العالم وقوتها وحياتها ومستقبلها تحت غطاء عولمة التجارة وتُحَرّكها شبكة مشتقات فساد القيم والأخلاق، التي جَرّت إلى كارثة مالية تئن برائحتها جميع المصارف في دول العالم، وإذا كان شعار التغيير لحملتك الانتخابية مجرد شعار يستهدف الوضع الداخلي لأميركا فقط مع استمرار السياسة الخارجية التسلطية من دون تغيير بعد أن تحيط بك مراكز النفوذ وتيارات المصالح، فاسمح لنا برفع لوحة سنرسم عليها"مفاتيح التبن"، الذي بعد أن هبت رياح العولمة أصبحنا نعرفه بأحد المشتقات التجارية التي أصابها التضخم بسبب سياسات بلدكم التي أقلقت العالم عسكرياً واقتصادياً. * رئيس شركة الكهرباء للشؤون العامة [email protected]