لقد فعلتها أميركا. ابن مهاجر من كينيا من أصل افريقي صاحب بشرة سمراء عمره 47 سنة، من خلفية عائلية متواضعة يتمكن من بلوغ أرفع منصب في رأس الهرم الأميركي. وهذا لا يحدث إلا في أميركا. لذا فأول ما يمكن تسجيله من استنتاجات من الحملة الانتخابية الرئاسية الشاقة والتي جعلت باراك حسين أوباما الرئيس الرابع والأربعين هو توجيه التحية ل"الديموقراطية الأميركية"بعيداً عن أي تنظير عقائدي أو ايديولوجي، فهذه الديموقراطية قدمت الفرصة الكبيرة لجورج دبليو بوش ووضعته في البيت الأبيض لثماني سنوات، وها هي تقذف به خارجاً وتختار الرئيس - الصدمة لينقذ أميركا من نفسها أولاً، وينقذ العالم من سياسات واشنطن المدمرة في كثير من الأحيان والمواقع. عوامل كثيرة ومتعددة التقت لتصنع الحدث المدوي، ولعل في طليعة هذه الأسباب الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الرئيس المغادر جورج دبليو بوش مع ما سمي جماعة"المحافظين الجدد"، فكانت سياسات السنوات الثماني وبالاً على أميركا والعالم. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن جورج بوش كان"الناخب"الأكبر لباراك أوباما. ولأن النظام الديموقراطي، خصوصاً الأميركي منه، يحاسب ويسائل ويحاكم كان خيار الغالبية من الشعب الأميركي الانتقال الى مقلب آخر مختلف كلياً عما شهدته الادارات المتعاقبة معبرة خير تعبير عن الرغبة الجامحة في"التغيير". على أن الانتصار الذي أنجزه الرئيس المنتخب كبير جداً والتحديات التي تواجهه في حكمه الآتي أكبر بكثير. والرجل يعي تماماً هذه الحقيقة، فعندما خاطب الجماهير المحتشدة في شيكاغو وهي تحتفل بالنصر قال أوباما:"إن الطريق أمامنا سيكون طويلاً وتسلقنا للجبل سيكون صعباً، وقد لا نصل الى هدفنا في سنة واحدة أو حتى خلال ولاية واحدة التأسيس من الآن لولاية ثانية، لكن لم أكن في أي وقت متفائلاً أكثر مما أنا متفائل هذه الليلة بأننا سنصل الى هدفنا وانني أعدكم بذلك". على أن المهمة الأولى والمعقدة أمام الرئيس الجديد هي العمل على"ترميم"الحلم الاميركي الذي أصيب اصابات مباشرة وأدى الى الترهل الكبير والمخيف في قيادة أميركا والعالم. على أن السؤال المحوري الذي يفرض نفسه قبل أي اعتبار آخر هو كيف تمكن الشعب الأميركي من التفلّت من إرث كبير وهو العِرق والعنصرية؟ وقد أجابت صحيفة"نيويورك تايمز"على هذا التساؤل بالقول:"عندما أيدنا أوباما للوصول الى الرئاسة لم نذكر العِرق لسبب بسيط وهو أن العِرق لم يؤد اي دور في قرارنا، فقد كان أوباما الأفضل بين مرشحين جيدين، ولا يمكن ابداً محو لطخة العبودية والتمييز ولا يتقدم بلد نحو حقبة اسطورية في يوم واحد. وعندما ولد أوباما كانت ولايات عدة تحظر الزواج بين والدته البيضاء من كنساس ووالده الأسود من كينيا، لذا لم نتوقع الوصول الى هذا اليوم". ومثل هذا الكلام يعني بزوغ فجر أميركي جديد بالتخلص بشكل تدريجي من آفة التمييز العنصري مع ما يحيط بهذا الواقع المستبد من مخاطر من قبل جماعات كثيرة متطرفة قد تسعى الى تشويه هذا الانجاز الكبير. ولعل الرئيس أوباما يدرك تماماً حقيقة مشاعر غالبية الشعب الأميركي التي صوتت له بنسبة اقتراع قياسية بلغت 66 في المئة وهو الذي قال:"إلى الذين لم يصوتوا لي ربما لم أفز بأصواتكم الليلة لكنني أسمع أصواتكم واحتاج الى مساعدتكم وسوف أكون رئيسكم أيضاً". وفي هذا الكلام دعوة تصالحية مع"الفريق الآخر"من الأميركيين. وسيعبّر الرئيس المنتخب عن تطلعاته بإشراك عناصر تنتمي الى الحزب الجمهوري في الإدارة الأميركية الجديدة لعل هذه الصيغة تسهم بشكل من الاشكال في التخفيف من وطأة التمييز العنصري والحزبي في طول أميركا وعرضها. ويأتي انتخاب باراك أوباما في فترة يسودها كلام كثير وكبير من نوع"بداية النهاية للامبراطورية الأميركية". وفي هذا السياق يبدو حكم أوباما الآتي بمثابة إنقاذ ل"الحلم الأميركي"المحطم. وعلى صعيد الوقائع وحيث لا تزال الولاياتالمتحدة تعايش أجواء الصدمة الاجابية في التغيير، بدأت على الفور المرحلة الانتقالية التي تتواصل على مدى 76 يوماً وصولاً الى يوم العشرين من كانون الثاني يناير من العام 2009، وهو الموعد الرسمي للتسلم والتسليم، وهذا يعني أن الرئيس جورج بوش باق في البيت الأبيض حتى هذا التاريخ وهو يظل ممسكاً بالقرار حتى ذلك الحين. ولفرط ما أقدم عليه من قرارات وتوجهات كانت لها النتائج الكارثية، تتساءل بعض الأوساط عما إذا كان الرئيس المغادر سيقدم على أي مغامرة جديدة تضاف الى سجله الحافل بالقرارات الخاطئة الى حد الحماقات، على أن التقليد الأميركي يقضي بأن يطلع الرئيس الحالي الرئيس المقبل على أسرار الدولة مع التأكيد على الشعار: رئيس واحد لأميركا في وقت واحد. وسوف يتضح للرئيس الآتي أن رؤية روما من فوق ليست كرؤيتها من تحت"، كذلك سيواجه تجربة مدى تطابق الوعود الكثيرة التي أطلقها خلال حملته الانتخابية مع التنفيذ الفعلي والعملي. ومن الطبيعي في هذه المرحلة من التغيير التاريخي أن تكثر الرهانات على السياسات الأميركية التي ستعتمد في العهد الجديد. فالرجل الآتي الى البيت الأبيض على حصان أبيض وأسود بدأ يسوق لسياسة الحوار مع الأطراف التي يسود علاقاتها مع أميركا التوتر والخلاف، ويأتي في طليعة ذلك كيفية التعاطي مع الملف النووي الايراني على سبيل المثال. ومن نكسات"الحقبة البوشية"سقوط الآمال بقيام دولة فلسطينية قبل نهاية العام الحالي، وها هي الوزيرة كوندوليزا رايس في المنطقة للمرة الأخيرة ربما، لتبلغ الأطراف المعنية بذلك. فمن يحاكم أميركا على عدم وفائها بالوعود التي قطعتها وما أكثرها؟ وفي هذا المجال تجب الاشارة الى المبايعة التي قدمها باراك أوباما لاسرائيل التي زارها فور اختياره مرشحاً عن الحزب الديموقراطي، لذا لا يتوقع أن يكون حل القضية الفلسطينية من أولويات الادارة الجديدة، فالمفكرة حاشدة وستكون بدايتها بالعمل على التوصل الى تسوية للحربين في العراق وفي افغانستان وهو الذي قال إن آباء وأمهات الجنود الأميركيين يريدون عودة أبنائهم بسرعة الى الوطن، فهل يعني ذلك الانسحاب التدريجي من التورط في العراق وفي افغانستان فيما يحذره البعض من التراخي في التعامل مع"الإرهاب والإرهابيين". وكانت اسرائيل أول من اعترض على سياسة الحوار والانفتاح في المنطقة حيث قالت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية إن مثل هذه السياسة"يقدم اشارات الضعف ضد التطرف". لقد كرر الرئيس جورج بوش مرات عديدة التعبير التالي"ان العالم سيكون أكثر أمناً بعدم وجود صدام حسين"والرد على ذلك بالقول... إن العالم سيكون أكثر أمناً بغياب الرئيس بوش عن المسرح، بل يجب توجيه الشكر الى جورج دبليو بوش لأنه"أتى"بباراك أوباما رئيساً منقذاً لأميركا وللعالم. وكل ما ترجوه شعوب المنطقة ألا تصاب بخيبة أمل جديدة لذا على حكام وشعوب المنطقة معاً بناء علاقات مختلفة عن السابق مع صانع القرار الجديد في واشنطن. فإذا كان التغيير قد عصف بأميركا بالشكل الذي شهده العالم قبل أيام، فمثل هذا التغيير قد يفاجئ بالظهور في أماكن ومناطق أخرى من دون سابق انذار. قيل الكثير وسيقال أكثر في الحدث الأميركي المدوي. وفي الكلام الأخير: هذه هي أميركا التي تباغَت بفتح الغين على حين غرة بالمفاجآت، لتعود أميركا نفسها لتباغِت بكسر الغين العالم. وهي حزمت أمرها وفصلت ما بين الخط الأبيض والخط الأسود. كان الرئيس الراحل جون كيندي الرئيس الملهم بالنسبة للكثير من الأميركيين، ويبدو أن أميركا"عثرت"على جون كيندي آخر طبعة 2008! مع كيندي الستينات بدأ الحلم الكبير بالتوهج لكن لم يسمح له بالمتابعة. فكيف تحمي أميركا بطلها الجديد؟ * كاتب وإعلامي لبناني. نشر في العدد: 16655 ت.م: 09-11-2008 ص: 17 ط: الرياض