قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    سمو أمير منطقة الباحة يشهد توقيع مذكرة تفاهم    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    تراحم الباحة " تنظم مبادة حياة بمناسبة اليوم العالمي للأسرة    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    طلاب وطالبات السعودية يحصدون 9 جوائز خاصة في «آيسف 2024»    حرس الحدود يحبط تهريب 360 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    ضيوف بيت الله الحرام المغادرون من مطار أديسومارمو    استشاري ل«عكاظ»: قمة «الهلال والنصر» صراع جماهيري يتجدد في الديربي    387 مليون يورو في «ديربي الرياض»    النفط يتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية معتدلة وسط آمال تحسن الطلب    أسباب تمنع الأهلي المصري من ضم أحمد حجازي    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار على معظم مناطق المملكة    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    الكليجا والتمر تجذب زوار "آيسف 2024"    الطاقة النظيفة مجال جديد للتعاون مع أمريكا    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    حلول سعودية في قمة التحديات    فتياتنا من ذهب    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    حراك شامل    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    فوائد صحية للفلفل الأسود    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    كلنا مستهدفون    أثقل الناس    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    السفير الإيراني يزور «الرياض»    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أكابيللا" رواية ثالثة لمي التلمساني . لو أن البشر يعيشون من أجل اللحظة
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 2012

بعد روايتين متميزتيْن:"دنيا زاد"و"هليوبوليس"، تطالعنا مي التلمساني برواية عميقة الدلالة، ممتعة ومشوقة، هي"أكابيللا"دار شرقيات،2012 . وتحيل كلمة العنوان في القاموس الإيطالي على الصوت المنفرد الذي يؤدي أغنية من دون مُرافقة آلات موسيقية، وهو عنوان يوحي بالظلال الكثيفة التي ترتادها الرواية لاستجلاء الكامن، الغامض، المثير لأسئلة مقلقة نحاول تجنُّبها، لكنها تنجح في أن تجرف السدود المصطنعة التي نتمترس خلفها، فيتدفق ذلك الصوت المنفرد جاهراً بالمكبوت والمُتواري خلف المواضعات. وأول ما يستوقفنا في الرواية بناؤها المعتمد على شخصيتي امرأتيْن متعارضتين في السلوك والرؤية والعلاقة بالجسد، ولكن نوعاً غريباً من الصداقة يجمعهما، وسط شلّة من أربعة رجال يجذبهم سحر عايدة الرسامة المتحررة، المغامرة، وحضور"ماهي"الساردة، المتزوجة، المحافظة على وفائها لزوجها، والمسرورة بهذه العلاقة التي توفر لها سهرات تعوضها عن رتابة الحياة الزوجية.
وفي الواقع، علاقة الساردة بعايدة الملتبسة والمتوترة، هي المسألة التي تسعى"ماهي"إلى فهمها واستيعابها، بخاصة أن عايدة فاجأت الشلة بموتها المفاجئ وهي في عزّ شبابها، مخلفة يوميات متفرقة كتبتها في فترات متباعدة، واستطاعت الساردة أن تختلس بعضها في حياة عايدة وأن تأخذ الجزء المتبقي بعد موتها. ما كان يهمّ الساردة، في البداية، هو أن تتعرف على حقيقة مشاعر عايدة تجاهها، لكن اليوميات تكشف لها ولنا، جوانب من غرامياتها ورؤيتها الحياتية، وتقييمها لأصدقاء الشلة المكونة من أسامة زوجها الأول، وحسام آخر عشيق لعايدة، وكريم الروائي المعروف، والطبيب عادل الذي يحاول الكتابة في أوقات فراغه:"أسامة وحسام ليسا متزوجيْن، كريم وعادل متزوجان وزواجهما عاطل من البهجة رغم الأولاد والاستقرار المادي"ص9. كل واحد من الرجال الأربعة منجذب إلى عايدة التي تمتلك إشعاعاً لا يُقاوم، وتعرف كيف تضفي على الحياة اللمسات التي تكسر رتابتها، وتفتح نوافذ على فضاء الانتشاء والتحرر من القيود. وما تفعله الساردة، انطلاقاً من يوميات عايدة الغائبة، هو أن تعيد كتابة مسار حياتها مُزاوجَة بين ما ورد في اليوميات والتفاصيل التي عاشتْها معها ومع شلة الأنس. إلا أن الساردة لا تفعل ذلك بحيادٍ وتباعُد، بل هي تستحضر ذاتها وأسئلتها ورؤيتها الحياتية، فيغدو شكل الرواية ثنائي الصوت والرؤية، عبْرَ جدلية متعارضة بين شخصيتيْ عايدة المغامرة، المتحدية للقيم السائدة، والساردة المتمسكة بالأخلاق العامة والباحثة عن مسرّات لا تزعزع وضعها الزوجي المستقر:"...التقيتُ عايدة والتصقتُ بها كما يلتصق الغريق بطوْق النجاة، وهي النقيض الكامل لي، ثم انزلقتُ بعيداً عنها كأنني فضلت الغرق الدائم في حياتي على الطفُوّ الموقت في مداراتها. هل كنتُ أحافظ على وَهْم ِالاستقرار وألفَة الأخلاق الرشيدة، أم كنتُ أحاكمها حتى أثبت لنفسي أني الأفضل، الأعقل، الأنجح، الأكمل؟ أدرك الآن بعد وفاتها، أن عالمي كان مصقولاً كحجر أملس، وكانت عايدة وسيلتي للخروج من هذا العالم والتشبث بخشونة عالم آخر يَعِدُني بمشاعر جديدة ليس من بينها الملل وعدم الرضا."ص 44.
ومن خلال لجوء الكاتبة إلى تقنية"إعادة الكتابة"التي تُستعمَل عادة لتبرير تحوير الحكايات والأساطير واليوميات والسّيَر...،استطاعت الساردة أن تتملّك دفّة الحكي، وأن تجعل التجربة مستمرة حتى بعد موت عايدة التي كانت هي مركز الثقل ومدار الأفعال. لم تتوقف التجربة لأن الساردة مُصرّة على أن تتبيّن موقعها، مُقارَنة بعايدة التي تجسّد"حالة قصوى"في التحدي وخفّة السلوك: هي امرأة لا تتورع عن الكذب، لا تتردد في أن تسرق أشياء نفيسة وملابس من منازل صديقاتها ومن المحال التجارية، وتستجيب بسهولة لنداء جسدها، وأيضاً لعاطفة الحب الجارف وعذاباته. ولتبرير إقبالها على مغامرات العشق المكررة، تورد في مذكراتها رأي أوسكار وايلد:"في كل مرة يحبّ فيها المرءُ، تكون هي أول مرة يحب فيها. اختلاف المحبوب لا يغير شيئاً من تفرّد العاطفة"يجعلها أكثر كثافة فحسب. لا يمكننا أن نعيش تجربة حب عظيم سوى مرة واحدة على الأكثر، وسر الحياة هو إنتاج هذه التجربة كلما أمكن ذلك."ص 73. على هذا النحو، جعلت عايدة من الحب المتعدد عنصراً ضرورياً لحماية الحياة من الملل والاستقرار البليد.
وعندما التقتْ حسام بعد ثلاثين سنة مضت على لقاءاتهما الطفولية، عاشت معه تجربة حب ملتهبة، عبّرت عنها في يومياتها من خلال ست رسائل كانت ترسلها إلى الحبيب، رجل الأعمال الناجح المتنقل بين عواصم العالم. ولم تستطع الساردة أن تحافظ على نظرتها إلى ضرورة الوفاء لبيت الزوجية"بدأت تحس أن آراء عايدة تتسرب إلى أعماقها، وأنها لم تعد مقتنعة بعقلانية زوجها المحافظ:" يقول زوجي إن القلب السليم يتشاور مع العقل السليم ويصلان معاً إلى قرار صائب، والقرار الصائب من وجهة نظره يتعلق بالبُعد عن الشبهات سواء كانت شبهة الحب أو شبهة الانجذاب العاطفي، كأنه يقفلُ باب النقاش في حديث لا يدري عواقبه. وأقول مرددة آراء عايدة: مهما كانت العواقب، تظل خفقة القلب هذه بلا ثمن. من حق كل إنسان أن يخفق قلبه مرات، أن يقع- لو أراد- مرة أو مرات، والإرادة عليها المعوّل في قياس حجم الوقعة ومداها وإمكانية مُداواة الألم الناتج منها."ص72. وتحكي لنا الساردة، أن كريم الروائي كان هو مَنْ يغازلها من بين أفراد الشلة، وكانت تصدّه لأنه يبحث عن مغامرات عابرة، ويبني علاقاته على أساس من مصالح مادية. وذات سهرة، فاجأها بتقبيلها عنوة أمام الآخرين، وهو حادث وجدت صداه في يوميات عايدة التي كانت تعتبر كريم من ضمن عشاقها، وأن الساردة استمتعت بالقبلة على رغم تمنُّعها واحتجاجها. ولم تكن ملاحظة عايدة مُجانبة للصواب، لأن الساردة قررت شراء الشقة التي كانت عايدة تسكنها وتجعل منها ملتقى لسهرات الشلة، وعندما أنهَتْ إعادة كتابة اليوميات، عرَضتْها على كريم الذي بدأ يتردد بانتظام على الشقة، وامتد الحوار بينهما، ليكتشفا أن الوحدة غول يتربص بهما وأن لا مناص من أن يلتحم الجسدان، وأن تستمر لقاءات الشلة لمقاومة الرتابة وتكلّس العلاقات.
صيرورة الأضداد
أعتقد أن شكل رواية"أكابيللا"المبني على شخصيتيْن متعارضتي الاتجاه والرؤية، هو ما سمح بتجسيد دلالات غنية تنطوي على أكثر من مستوى للقراءة والتأويل. ذلك أن سيرورة الجدلية الكامنة وراء السرد تقترن بزمنيةٍ مفتوحة، تتقبّل التحولات الطارئة على الشخصيات وعلى الرؤية إلى العالم المتحدّرة من دلالة الرواية. ومن هذا المنظور، يمكن أن نبرز دلالتيْن لافتتيْن: أولاهما، تتصل بحرية المرأة في مجتمع ذكوري لا يسمح للنساء بما يسمح به للرجال في مجال العشق المُتعدد، والبوْح بالعواطف، وإرواء الجسد. بعبارة ثانية، لا يمكن للمرأة، في مجتمعاتنا العربية أن تمارس حريتها في شموليتها الوجودية والميتافيزيقية التي تجعلها هي أيضاً نهباً للقلق والنزوات والاشتهاء والتمرد على المواضعات... وهذا وضع يعود إلى الإطار الذي يسجن المرأة داخل سياج الزواج والأمومة والحفاظ على الشرف والأخلاق الموروثة. من ثمّ تبدو شخصية عايدة شاذة ومقلقة لأنها تبيح لنفسها أن تحب متى تشاء، وتُعطى الأسبقية للإحساس المباشر، وتُقبِل على لحظات البهجة والانتشاء. وفي المقابل، نجد شخصية"ماهي"الساردة التي اكتشفت قيمة الحرية من خلال سلوك عايدة المتحايلة على المجتمع، فقررت السير على طريقها، تفادياً للرتابة والوحدة والعيش في ظلّ الغباء.
والدلالة الثانية يمكن أن نخمنها من خلال تأويل بعض الإشارات وربطها بإشكالية كبيرة، طرحتْها تطورات المجتمعات الحديثة المتسارعة، والتي تتعلق بالوضع الاعتباري للعائلة اليوم. بتعبير آخر، هل الزواج وتكوين أسرة شكل ضروري لاستمرار المجتمعات التي طبعتْ أفرادها باللااستقرار والعلائق العابرة، والعواطف الموقتة؟ هو تحول وارد، تزكّيه أشكال التنظيم الاجتماعي في المدن العملاقة التي تُحبذ التمرد على مؤسسة الزواج، وتيسر أسباب المتعية الجسدية، والعيش من أجل اللحظة التي لا تشبه غيرها...
إن رواية"أكابيللا"تكتنز إيحاءات كثيرة، وتستثير عند القارئ أفكاراً وتأملات عميقة ومتشعبة، تبدأ من الذات لتلامس أسئلة متجذرة في الكينونة وصيرورة الأضداد التي لا تعرف حدوداً مسبقة. وكل ذلك يصلنا عبر شكل محكم، ولغة رقراقة دقيقة، خالية من الحشو والثرثرة، وخلفية ثقافية تجمع بين الأدب والتشكيل والسينما... فعلاً، هي رواية أشبه بأغنية يُنشدها صوت منفرد، تدعونا إلى أن نعيد التأمل في ثوابت تُقلّص حريتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.