أردت في روايتي الأخيرة،"امرأة تهرب من الابلاغ"، أن أكتب تاريخ أسرة في هذه المنطقة من العالم وهذه الحقبة من الزمن، وأن أشهد القارئ على أثر الحوادث والعنف في علاقات أفراد الأسرة بعضهم ببعض، وعلى دوام الحنان والرقة، على رغم المحن، في علاقاتهم. وهي مسألة دأبنا على مناقشتها زوجتي وأنا. فنحن، من جهة، أردنا تربية أولاد لا يرفعون حواجز بينهم وبين الآخرين، ويثقون بهم، ويحملونهم على بشر وآدميين وليس على اسرائيليين أو عرب. ولكننا، من وجه آخر، خالجنا على الدوام شك: هل التربية على هذا النحو هي إعداد أو تأهيل مناسب لتدبير الواحد أمره وشؤونه في هذا البلد؟ فالإقامة أو العيش هنا يقتضي شروطاً متناقضة. وفي الرواية، تخاطب الشخصية الأساسية الابن الذاهب إلى المرآة بالقول:"لا تطلق النار على أحد!". وتخاطب نفسها:"هل زرع بذرة الشك في نفسه يحول دون فعل الأمر المناسب في الوقت المواتي لدفاعه عن نفسه؟". والحق أن هذه البلاد لا ترعى الموقف المشكك والمتحفظ، فهي منطقة"مباشرة"وتدعو أهلها وسكانها إلى أفعال غريزية مجردة من التفكير. وأنا أذكر كيف كنا نتصرف في الأوقات التي كثرت فيها الهجمات الانتحارية في الشوارع والحافلات. فكان واحدنا يفكر أو يقول في سره، حال دخوله الحافلة: هذا معنا وهذا يبيت لنا الشر، وينظر إلى أيدي الناس، أو إلى القميص ليرى إذا كانوا يحملون شيئاً... ولا شك في أن هذا الوقت حدّي وخارج المألوف والمعتاد، ولكننا عملياً نعيش على هذا النحو المرعب الذي يفقدنا إنسانيتنا. وينبغي الكفاح لأجل تذكير الناس أننا كلنا بشر، ونستحق كلنا حياة عادية، بينما نحن نبدد هذه الحياة منذ 3 أجيال. ويحسب الناس، هنا، يهوداً وعرباً، أن هذا قدرهم المقسوم، ولا مناص من اقتتالهم واحترابهم. ولعل تناول الرواية الأزهار والحشرات، ووصفها وصفاً دقيقاً، وتسمية الأشياء الضئيلة بأسمائها، مسائل غير ثانوية بل جوهرية. فأنا أرى أن"الوضع"السياسي العام يحملنا على التخلي عن الكلمات، وعن اللغة. وكلام الناس أكثره كليشيهات وشعارات وعناوين صحف. وهم لا يصنعون حججاً ولكنهم يرمون بعضهم بعضاً بالتهم. فأردت أن أكتب كتاباً يسمي الأشياء بأسمائها الدقيقة: يسمي حياة الأسرة، والغرام، وأمور الحرب والطبيعة. وقصدي انتزاع اللغة من"الوضع"الذي سلبنا إياها. وينبغي على كل كلمة أن تأتي بجديد ملموس، أكان شجرة أم لوناً من ألوان الشعور. وهذا التدقيق او التفصيل هو إضافة. وهو لمس الحياة بوسائل أو أدوات كثيرة. وتسمية شيء هي نوع من علاقة به. وعلى سبيل المثل، لم يكن الاسرائيليون محبطين أبداً الى الستينات، والسبب هو أن العبرية كانت تفتقر إلى كلمة ل"إحباط"، ولم يسبق أن نحت أحد مثل هذه الكلمة. وكان في وسع الواحد أن يكون عصبياً أو متوتراً أو خائباً. وفي أحد الأيام، ابتكر أحدهم لفظة"تيسكول". وغداة هذا اليوم غمرنا كلنا السرور بإحباطنا! وأنا صرت كاتباً في العشرين. وذلك أن مشادة حادة دعت صديقتي إلى العودة الى أهلها بحيفا. وأصابتني بالانهيار. فجلست إلى مكتبي، وكتبت قصة جندي يهرب من الجيش في أثناء حرب فيتنام ويلجأ إلى النمسا. وفي الملجأ يواسيه صديق. وملاذه الوحيد هو قطيع حمير... ولا أغفل أن قصتي ميلودرامية. ولكنها كانت أول مرة أحسست فيها بمحلي من العالم ومنه. وفي مقدور الواحد أن يكتب استجابة لمتعة القص، أو لدواع أخرى كثيرة. وأنا أشعر اليوم بأن الكتابة مثل حياة. ومنذ 5 أعوام هي المثال دون غيره. ولدي قتل في أثناء حرب 2006. وعندما حدث هذا كانت مضت 3 سنوات ونصف السنة على كتابتي الرواية. وكنت لا أعرف إذا كان في وسعي استئناف العمل. وبعد انقضاء حداد الأيام السبعة، استأنفت الكتابة. فأنا لا أرى ما يسعني أن أفعل غير الكتابة لأكون في هذه الحياة. وحين تحل بك كارثة مثل هذه، تشعر بنفيك من كل ما كنت تعرفه من قبل من غير استثناء. فلا يبدو لك شيء أليفاً بعدها. واستئناف الكتابة كان ذريعة إلى انشاء مأوى لي. كنت أجلس وأكتب، وأقول مخاطباً نفسي:"هل أنت أبله؟ العالم ينهار من حولك وأنت مصرّ على كتابة هذه الكلمة، هذه الجملة...". وكنت حين أعثر على الكلمة المواتية ينتابني شعور بما تسميه القبّالة ال"تيكون"، أي تقويم شيء منحرف أو إصلاحه. وأنا لم أقوِّم انحراف العالم، وثمة أشياء تعصى الإصلاح والعلاج. ولكنني جمعت أمري على طلب الحياة. وأنا متفائل بعض الشيء في شأن حظوظ السلام مع الشعب الفلسطيني. وما أراه هو أننا إذا تخطينا المعوقات الكثيرة التي تنتصب في الطريق إلى السلام، فثمة ما يؤذن باحتمال علاقات جوار لا بأس بها. وليس معنى هذا أن الاسرائيليين والفلسطينيين قادمون على عشق بعضهم بعضاً. والأمم لا تنشد العشق في علاقاتها. ولكن السلام يربط بين الشعوب برباط المعرفة، معرفة اللغة والمشاهد. وإذ ذاك قد تولد رابطة المودة، ويقتضي هذا أعواماً. والسلام يفترض مساومات أليمة. والمساومات الأليمة تخلف متعصبين محمومين في الجهتين، ويستميت هؤلاء في قتل السلام الوليد. وإذا أصبنا المقدار الوافي من الذكاء والشجاعة والحظ، وبلغنا السلام، فالأرجح أن يدهش الفلسطينيون والاسرائيليون العالم، وأن يجترحوا حياة عادية. وأنا أقول حياة عادية من غير أن أعرف كيف تكون الحياة العادية وما هي، فأنا لم أختبر يوماً حياة مثل هذه. ولكنني أتخيل أننا إذا مكنا الفلسطينيين من أن يتولوا شؤونهم من غير إكراههم على العيش في ظلنا، وأن يربوا أولادهم من غير خوف، ويتمتعوا بكرامة انسانية، فربما صرفوا إذ ذاك جهدهم إلى بناء أمتهم. وكذلك فنحن محرومون من الحق في حياة حقيقية، ونحيا في موازاة حياتنا. وهذا أمر فظيع. فهذا البلد يتقلب في العنف منذ أكثر من قرن. وتبعث هذه الحال في الناس ميول العدوان والعُظام. فيصنفون البشر صنفين: واحد طيب وآخر فاسد. ويؤبلسون الآخرين، ويرفعون أنفسهم فوقهم، ويسنون قوانين تناسب قلقهم وعلى خلاف قيمهم. ويفضي هذا إلى تقليص الديموقراطية، وإلى خطف فريق من اليهود الخلاصيين والمجانين الدولة، واجتياح ذهنية المستعمرات البلد. وأنا لا أدعو إلى الموادعة والمسالمة من غير شرط، ولا إلى التخلي عن جيش قوي. فلا البلدان العربية أظهرت إرادة موادعة ولا نحن أظهرنا مثل هذه الإرادة. ولكن الجيش ليس أداة بقائنا الوحيدة هنا. فمن وسيلة حياة أفضل أصبح غاية في نفسه. * روائي إسرائيلي، عن"ليبراسيون"الفرنسية، 21/20-8-2011، إعداد م. ن.