كتاب لم أؤلفه، ولم أوقعه، ولم أضع له عنواناً، ولم أتعاقد كتابياً لنشره مع أي ناشر، ولم أتفق شفوياً في نشره مع أي جهة، يباع اليوم في بعض مكتبات القاهرة تحت عنوان تجاري لا يتطابق مع محتواه إلا جزئياً:"المثلية الجنسية عند العرب"، وتحته عنوان فرعي:"المرأة ذات الفرج المقلوب". الناشر الذي نشر باسمي كتاباً لم أؤلفه ولم أضع عنوانه يسمي نفسه"الأوان للثقافة الحرة"، وعنوانه: 8 بناية الأحمدي - دبي. ويحمل الكتاب رقم إيداع: 1502930777، ويحمل تاريخاً للنشر هو 2010، ويحمل عبارة"جميع الحقوق محفوظة". ولنترجم هذه العبارة:"جميع الحقوق المنتهبة محفوظة لناهبها". والأدهى والأمر، أن هذا الكتاب يضم مقالات وأبحاثاً نشرت لي في موقع"الأوان"، ويضم مقالات لكتاب غيري نشروا نصوصاً في الموقع نفسه ثم في كتيب صادر عن"رابطة العقلانيين العرب"بالتعاون مع دار بترا حول موضوع"تابو البكارة". وهو ما يعني أن هذا الناشر لم يسطُ على نصوصي فقط، بل سطا على نصوص غيري، ناسباً إياها إلي. وبهذا المقتضى أكون قد ارتكبت جريمة انتحال في حق غيري من الكتاب. ثم إنه لم يذكر مصدر النصوص، بل انتحل صفة شخص معنوي هو"موقع الأوان"، موهماً بأن دار النشر وهذا الموقع مؤسسة واحدة. إنه سطو مركب على جمع من الأشخاص الماديين والمعنويين. دهشت وانزعجت، وأبعدت الكتاب عن نظري، وكأنه كائن مشوه مقرف. وبعد أسبوع عدت إليه مكرهة. فالموقف يقتضي أولا تبرئة ذمتي مما نسب إلي من انتحال نصوص كتاب آخرين، وتبرئة ذمتي من العنوان الإشهاري الذي لا يتطابق مع فحوى الكتاب، ولا يتطابق مع أهدافي من الكتابة. والموقف يستدعي أيضاً تشهيراً عمومياً بهذا السطو المنظم، وتنبيهاً إلى ضرورة أن تتحمل كل الأطراف المعنيين بالنشر في البلدان العربية مسؤوليتهم كاملة في هذا التدهور غير المسبوق لأخلاقيات النشر عندنا. فما هذا السطو الذي تعرضت إليه إلا مثال لما يتعرض إليه الكثير من الباحثين والكتاب العرب من نهب وانتحال وقرصنة، ومثال على الدرجة العالية من الإفلات من العقاب في مجال النشر والملكية الفكرية في ديارنا. ثم هو مثال على ظاهرة أعم: المستوى المتدني لاحترام الأشخاص وإرادتهم، ولاحترام حقوق الأشخاص في تقرير ما يمتلكونه من أجساد ومن أعمال فكرية أو فنية. أول عنوان وضعته لهذا المقال هو:"موت المؤلف: لكن بمعنى آخر". ثم عدلت عن هذا العنوان، لتقديري أن الكثير من القراء قد يعرضون عنه أو يظنونه مقالاً آخر في نظرية"موت المؤلف"، أو مراجعة للأبحاث البنيوية وتدقيقاً"أبستمولوجيا"في بعض المفاهيم. وكم نضع تحت قناع"الأبستمولوجيا"من قضايا نفسية ومدنية وسياسية بالأساس،لا تتطلب جهوداً نظرية بقدرما تتطلب تمييزاً بين الأمور، وتسمية للأشياء بأسمائها، وبناء لتفكير قيمي. إلا أن فكرة الموت عادت تلح علي، فالخاطر الأول هو الفكرة الأقرب إلى الأنفس وحقيقتها، لا سيما عندما نزيحه رضوخاً إلى مقتضيات التواصل والعقلنة. فيما دون"موت المؤلف"، هناك في البلدان الناطقة بالعربية"إماتة للمؤلف": يفترض هذا الناشر أن الكتاب الذين نشر نصوصهم موتى، بل ويفترض أنهم موتى سقطت كتبهم في المجال العام بعد خمسين أو سبعين عاماً من موتهم، فلا حقوق مادية لهم، وليس بيدهم قرار نشر أعمالهم. لكنه يفترض أيضاً أن هؤلاء الكتاب موتى قبل موتهم. موتى عقلياً ونفسياً، بحيث لا حقوق معنوية لهم، تجعلهم يقررون مصير أول نشرة لكتبهم. أليس في هذا الافتراض نوع من أنواع العنف الأقصى، وهو نفي حق الإنسان في أن تكون له إرادة الأحياء وحقوقهم؟ أليس فيه أيضاً علامة على أزمة انعدام الفواصل بين الحياة والموت، فكأن أحياءنا موتى وموتانا أحياء؟ القضية التي أود طرحها، انطلاقاً من هذا الخاطر، لا تتعلق بالحقوق المادية للمؤلفين. فوضعية الغبن التي يعيشها معظم المؤلفين مع معظم الناشرين في بلداننا معروفة: اضطرار الكثير منهم إلى تمويل جزئي لكتبهم، وتحايل بعض الناشرين في احتساب عائدات النشر، بحيث أنهم لا يؤدون للمؤلفين المساكين فلساً واحداً، أو يمكنونهم من مبالغ زهيدة لا تكفي حتى لسداد مصاريف إعداد الكتاب للنشر، وقد يأنفون من تسلمها حفظاً لماء الوجه، واحتراماً لما سهروا الليالي في كتابته وإعادة كتابته، واقتطاعه من أجسادهم وحيواتهم.. القضية التي أود طرحها تتعلق بالحقوق المعنوية التي لا تقبل التصرف أو التقادم، خلافاً للحقوق المادية، والتي لها علاقة بشخصية الكاتب وذاتيته. فالكاتب يمكن أن يتنازل عن حقوقه المادية إيماناً منه بأن الملكية الفكرية يجب ألا تخضع إلى قوانين ملكية الأشياء، أو دفاعاً منه على حق الجميع في المعرفة، أو حرصاً منه على إيصال فكرة حبيبة نفيسة. أما الحقوق المعنوية، فهي لا تقبل التنازل إلا إذا افترضنا لدى صاحب الحق درجة عالية من المازوشية أو الرغبة في التلاشي أو كره الذات. الحقوق المعنوية للكتاب تقوم على الفلسفة البسيطة التالية: العمل تعبير عن شخصية صاحبه أو تجسيد لإرادته أو قطعة من كيانه. والحقوق المعنوية تشمل حق الكاتب في اتخاذ قرار أول نشرة لعمله، وحقه في نسبة العمل إليه، وحقه في احترام الناشرين حرمة عمله، وعدم تشويههم إياه بما يتنافى مع غاياته وميوله... وإذا كان عمل الكاتب قطعة منه وتجسيداً لإرادته، فهل نشهد اتجاراً بكتابات المؤلفين، أشبه ما يكون بالاتجار بالأعضاء الحية؟ أهي نخاسة من نوع آخر؟ أليس بين هذه الكلمات التالية تجانس لفظي يوحي بما بينها من وشائج تتعلق بعدم تقدير"حرمة"الفرد وإرادته: نخاسة، نسخ، مسخ؟ أحد الناشرين في مصر أكد لي بحدسه أن الكتاب مطبوع في مصر، مع أن العنوان المذكور هو دبي. هل العنوان المذكور حقيقي، وهل رقم الإيداع حقيقي؟ المسألة حالياً في حكم علم الغيب. ولكنني أرجو أن يضطلع"اتحاد الناشرين العرب"بمهامه التي منها:"العمل على رفع مستوى مهنة النشر، ووضع ميثاق شرف يلتزم به الناشرون العرب"و"التصدي بكل قوة لمكافحة عمليات الاعتداء على حقوق الملكية الأدبية والفكرية، والعمل على زيادة الوعي في ضمير المجتمعات العربية بأهمية احترام حقوق الملكية وتجريم الاعتداء عليها"، و"العمل على استصدار قوانين رادعة لحماية حقوق الملكية الفكرية وحقوق المبدعين، من المؤلفين والناشرين العرب، وحضّ الدول العربية على الانضمام إلى الاتفاقيات العربية والدولية المتعلقة بحماية هذه الحقوق، وتقديم المشورة القانونية للأعضاء"... * كاتبة تونسية نشر في العدد: 17246 ت.م: 23-06-2010 ص: 28 ط: الرياض