في الوقت الذي كانت"هيئة الاذاعة البريطانية"بي بي سي تناقش بث او عدم بث النداء الانساني لجمع التبرعات لضحايا العدوان الاسرائيلي على غزة، كان جون سنو مقدم نشرة الاخبار الرئيسة في القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني، يستعد لبث الفيلم الذي صوره على الحدود قرب معبر اسرائيل - غزة. ففي ظل منع اسرائيل الصحافيين من الدخول الى القطاع لنقل الاخبار، وجد سنو نفسه وزملاءه مطالبين بمراقبتها من خارج المنطقة، بما يشبه التنصت على الاحداث، او تخمينها وهم يسمعون اصواتاً للقصف الاسرائيلي على غزة تأتي من البعيد. كيف يمكن لأي صحافي في هذه الظروف وهو خارج ارض المعركة، ان يقوم بتغطية رصينة وحقيقية لمحطته؟ سؤال طرحه جون سنو - وهو احد اهم مقدمي نشرات الاخبار في بريطانيا - الذي لم يرد ان يضيع الوقت في انتظار لا معنى له، فوجدها فرصة لاعداد شريط وثائقي عن تجربة الصحافيين والمراسلين في"حرب هي غير كل الحروب، كانت اولى ضحاياها، الحقيقة". وهكذا أبصر النور شريط تلفزيوني من غزة بُث ضمن سلسلة برنامج التحقيقات الشهير في القناة الرابعة"ديسباتشز". بروباغندا يبدأ سنو استطلاعه من المركز الاعلامي الاسرائيلي حيث يحصل على بطاقة صحافية لتغطية الحدث، وملف صحافي اسرائيلي يصفه ب"البروباغندا"لما يحويه من مواد ترويجية من وجهة نظر اسرائيل، اعدتها الجهات الرسمية الاسرائيلية لتبرير الهجوم. ثم يتلقى سنو وعداً كما غيره من المراسلين في ان تصله آخر الاخبار من الجهات الرسمية عبر الرسائل القصيرة الى هاتفه الجوال مباشرة، في خطوة تشكل نقيضاً لكل المبادئ الإعلامية التي عهدها سنو، والتي تقوم على حرية بث المعلومات. فكيف يمكن الصحافي ان يقوم بواجبه ويقدم تغطية جيدة وموضوعية للحرب، وهي تأتي من جهة واحدة تحاول ان تهيمن على الحقيقة؟ نسمع الاجابة غير المباشرة على لسان صحافية تنتظر مع غيرها من المراسلين، إذ تردد المثل الدارج في عالم الصحافة:"الاخبار المتماثلة، اخبار معيبة". وتتوالى الأسئلة التي يطرحها سنو في شريطه حول تعامل الصحف والمحطات التلفزيونية البريطانية مع الحرب الاسرائيلية على غزة، مثل: هل يمكن اعتبار ما تم تغطيته، انعكاساً لما جرى على ارض الواقع فعلاً؟ ولماذا اختلفت تغطية المحطات الفضائية عن تلك الارضية؟ ولماذا تختلف عما نقلته القنوات العالمية وتلك التي في الشرق الاوسط، او ما تسرب عبر مواقع الانترنت؟ ثم يلتقي ممثلاً عن وكالة الانباء العالمية"رويترز"، يقرّ بأن الوكالة"تتدخل في ما يصلها من صور، لان القانون البريطاني الذي ينظم العمل الاعلامي، يمنع عرض صور تؤذي مشاعر الجمهور، مثل صور الجثث، او تلك التي تعكس شدة العنف في شكل او في آخر". بعدها يحيلنا سنو الى مثال من الصور الخاصة حول طفلة رضيعة دهستها دبابة اسرائيلية، فباتت قطعة غير واضحة الملامح. تأثير الصورة بفظاعتها سيختلف عندما تبث صورة للطفلة نفسها ملفوفة بقطعة قماش بيضاء قبل دفنها، حيث لا اثر لتفاصيل الجريمة الاصلية، وهي مجرد ضحية، ورقم في قائمة الضحايا. المراسلون الذين جاؤوا من اكثر من مكان في العالم، يمثلون وكالات انباء ومحطات اخبارية مرموقة، وهم شهود عيان على غطرسة قادة اسرائيل حيال العالم واعلامه. كانوا يقفون هناك في خيم معزولة يمرون بتجربة لم يعهدوها من قبل في تغطياتهم الصحافية للحروب متجمعين في خيم وتحت حراسة الجنود الاسرائيليين الذين يظهرون في الشريط وهم يقتربون منهم لتقييد حركتهم في المكان. تلتقط الكاميرا صوراً للجدار العازل غزة عن العالم، فتذكر بحجم العزلة في الداخل. يسأل سنو زملاءه عن هذا التحدي: كيف تكتب تقريراً من موقع الحرب وانت بعيد عنه؟ يكشف مراسل محطة"سكاي نيوز"ان ما تعرفه قناته في لندن اكثر مما يعرف هو عما يدور في القرب منه! مراسل"سي ان ان"يشعر بالملل ويفكر في ان يعود الى الولاياتالمتحدة، فيما يتأسف مراسل"بي بي سي"على العزلة المفروضة عليه، قائلاً انه كان بإمكانه تغطية بعض الحالات الانسانية ومتابعتها عن قرب، لا الاكتفاء بالخبر السريع عنها، كما في حال الاب الذي شاهده العالم يقبل جثة ابنه وهو في حالة ذهول. وحدهم المراسلون العرب داخل القطاع كانوا قادرين على متابعة ما يجري على ارض الواقع. يتحدث مراسل قناة"الجزيرة"لسنو عن الصعوبات الهائلة التي واجهتهم في تغطياتهم، ويذكر بمقتل ثلاثة من الصحافيين في القصف الاسرائيلي، اثنان منهما قتلا في قصف على الاحياء السكنية. اما الصحافيون الاسرائيليون الذين ظهروا في الشريط، فيقفون مع حكومتهم في قرار المنع، مذكرين بحرب اسرائيل على لبنان عام 2006 التي جعلت المراسلين الاجانب يكتبون عن الاوضاع الانسانية،"مستثيرين بالتالي تعاطف المشاهدين في الغرب"، كما تقول صحافية اسرائيلية. مشاهدة شريط"غزة غير المرئية، او كما لم تروها"، ولّد ألماً بحجم المآسي الفظيعة التي تحملها الصور، وهي تبث للمرة الاولى من قناة بريطانية في وقت متأخر نسبياً بعد الحادية عشرة بتوقيت لندن، مراعاة للقانون وكي لا يراها الاطفال. ويعترف جون سنو بفظاعة الصور التي عرضها في شريطه، ويؤكد انها الحقيقة، وان الصور التي بثها هي"الصور التي لم يرد الاسرائيليون ان نراها". نشر في العدد: 16735 ت.م: 2009-01-28 ص: 34 ط: الرياض