واحدة من أهم الإشكاليات التي تمتلك حيزاً من النقاش والاختلاف في المنطقة بشكل عام هي هذه التي تتعلق بإمكانية المزاوجة بين الديموقراطية والسلاح، أي بمعنى آخر كيف يمكن أن يتم الحديث عن حياة ديموقراطية أو اعتماد تعبيرات ديموقراطية كالانتخابات مثلاً في وقت لا تحتكر الدولة حق استعمال القوة ويتكون المجتمع من قوى طائفية أو مذهبية أو سياسية مسلحة تفرض واقعاً عسكرياً وتخوض انتخابات"ديموقراطية"في الوقت ذاته. فكيف يمكن التوفيق بين سياقين مختلفين لتحقيق الأهداف السياسية: سياق القوة العسكرية وسياق القوة التمثيلية، وكل من هذين السياقين يخضع للمعادلة الوطنية التي تعمل تحت سقف الدولة ويرتبط بالواقع الإقليمي أو بالمشروع الإقليمي وبمصدر التسليح والتذخير والتمويل، يتشرع الباب أمام التدخل الخارجي وأمام إعادة صياغة وتوزيع الولاءات بشكل عام؟ من حيث الشكل لا يجوز الحديث ولا تكتمل عناصر الديموقراطية إذا كانت في ظل الاحتلال، إن كان في العراق أو في فلسطين، لكن من حيث الواقع لا تقدم القوى الحائزة على امتياز السلاح تحت أي مسمى أفضلية على السلطات التمثيلية القائمة إن لجهة حرصها على الأمن والاستقرار بشكل عام أو لجهة تحمل مسؤولياتها في إطعام الناس وتأمين حاجاتهم الضرورية ومقومات الصمود أو لجهة اعتماد مشروع وطني مؤسساتي يهدف في نهاية المطاف إلى زوال الاحتلال وبناء السلطة الموحدة القادرة على التعاطي مع القضايا والاستحقاقات المعاصرة. تقدم النماذج المتكونة في العراقوفلسطينولبنان أساساً في هذه الإشكالية وتطرح تحدياً من داخلها، فالمجتمع لا يستطيع انتظار القوى المسلحة للانتهاء من تحقيق أهدافها المُعلنة كي ينطلق في العملية الديموقراطية وقيام الدولة، والقوى المسلحة بدورها غير قادرة على إخضاع نفسها لشروط العملية الديموقراطية والالتزام بنتائجها كما يحصل في النموذج اللبنانيحيث تلغي معادلة"حزب الله"المسلحة معادلة الأكثرية المنتخبة بشكل ديموقراطي. فأمام هذا وذاك ليس هناك من قدرة على المواءمة ما بين السياقين ولم تستطع واحدة من هذه التجارب النجاح في تحقيق ذلك. لعل التجربة خير برهان على انحراف القوى المسلحة عن أهدافها ولعل نضوج الحركات الفدائية التي تبنت الكفاح المسلح أو العمل الثوري في حقبة السبعينات - حيث تحول معظمها في ما بعد إلى الأطر العقلانية - يدل على أنها إذا لم تكن محكومة بشرعية سلطة ديموقراطية وبنظام تمثيلي فإن أفق نضالها يبقى غير ذي جدوى. لقد عبرت الطبقة السياسية في العراق عن استحالة التعايش بين السلاح والانتخابات، فبعدما أصدر تجمع العلماء المسلمين بيانه الذي اعتبر فيه أن المقاومة لا تستطيع أن تحكم أصدرت القوى السياسية موقفاً لافتاً يقول بضرورة إقصاء الميليشيات المسلحة عن عملية الانتخابات وبذلك تكون قد وضعت يدها على لب المشكلة. فالسؤال الأساس هو كيف تستطيع مجتمعات تحوي قوى مسلحة تبسط نفوذها على مناطق واسعة أن تنتج سلطة تأتي من خلال الانتخابات؟ وكيف يستطيع من يعتبر السلاح ضمانة لوجوده ومصدراً لقوته أن يتعايش مع ثقافة الديموقراطية التي تفترض الرضوخ لنتائج الانتخابات وقبول الرأي الآخر والأخذ بمنطق التعدد والالتزام بالدولة والقوى الشرعية باعتبارها حامية له ولحقوقه؟ ثمة مفارقة في هذا المجال فبعض القوى المسلحة اليوم لم تكن مُمثلة في عراق صدام حسين تمثيلاً سياسياً ولم يكن لديها وزراء في الحكومة أو نواب في البرلمان ولم يكن لديها حق في العمل السياسي أيضاً، ولم تكن تعتبر آنذاك أن السلاح يؤمن لها حقوقها! أما في ظل سلطة الحكومة الحالية التي تعكس تمثيلاً لا بأس به للقوى السياسية فقد شاركت هذه القوى في الانتخابات وتمثلت في البرلمان والحكومة وحازت على حرية حركة سياسية وشعبية وأصدرت الصحف وفتحت مراكز وأنشأت جيوشاً واستوردت السلاح وهي ليست مستعدة في الحد الأدنى للتخلي عن السلاح الثقيل لحساب السلطة التي شاركت في إنتاجها. وفي فلسطين يتبدد حلم إقامة سلطة وطنية موحدة تكون نموذجاً ديموقراطياً للنضال من أجل استعادة الأرض المحتلة وإنشاء الدولة وذلك بعدما خطا النضال الفلسطيني خطوات أتت به إلى الداخل عقب الانتفاضة الأولى ومن ثم الثانية. فحين أجمعت القوى الفلسطينية على إنشاء سلطة واحدة كانت تفترض آنذاك قبول شروط تلك السلطة وشروط امتلاك أفق سياسي واحد ومنهجية موحدة للعمل ضد الاحتلال ولم تكن لتتوقع أن تنظيم السلاح وحصره في سياق سلطة منتخبة ديموقراطياً يمكن أن يكون محط إنكار أو مزايدة من أحد، سيما أن فوضى السلاح تنعكس على الأمن الاجتماعي - الغذائي للمواطنين ولا تشكل الإطار الوحيد لشحذ القوى في مواجهة العدوان. وفي لبنان طوّرت القوى المسلحة خطابها ومبرراتها لحيازة السلاح وانتقلت من دورها في تحرير أراضٍ لبنانية محتلة إلى تبنيها لقيام توازن استراتيجي مع إسرائيل وتحويل هذا السلاح إلى طليعة في مقارعة المشروع الأميركي في المنطقة أيضاً! لقد فتح السلاح الإيراني في لبنان الباب أمام تدويل ازمة لبنان وأمام جذبه إلى مركز الصراع العسكري والسياسي في المنطقة من دون أن يؤمن التوازن الذي يحمي لبنان من العدوان. ولقد أدى هذا السلاح دوراً في تقويض سلطة الدولة المركزية. في أحد أوجهها، تقدم الديموقراطية في المجتمعات المتطورة نموذجاً للحد من سلطة الدولة ويأتي ذلك لحساب المجتمع المدني وحماية التعددية والتنوع والالتزام بالقانون العام. لكن الحد من سلطة الدولة عندنا يعني استباحة المنطق والقانون وانكشاف الدولة أمام التدخلات الإقليمية والخارجية وتحوُّلها الى ساحة لصراع الأصوليات والهمجيات ويعني أيضاً ضعف الدولة أمام المجتمعات المسلحة وازدياد نسبة الولاء للخارج وتبني استراتيجيات خارجية لا تنتصر على العدو ولا تحترم قواعد الديموقراطية إنما تزيد من معاناة المواطنين وتحولهم وقوداً لحروب الآخرين! * كاتب لبناني