للمرة الأولى في حياتي لم أشعر بالرهبة والخوف مع اقتراب موعد إقلاع طائرتي، ومحنتي مع الطيران اختفت فجأة في الهواء كالطائرة التي اقلتني، وكوني لا أعرف سبب تخلصي من تلك العقدة التي كانت تنتابني مع كل رحلة طيران، لا بد من ان يكون الزمن فعل فعله، مع تكرار رحلاتي وترحالي ومرور الوقت، وهذه هي حال الناس وطبيعة الأشياء، تتغير وتتبدل مع الزمن. منذ وصولي قبل حوالى عقدين من الزمن الى بلد الغربة والمهجر، بلدي الثاني السويد، وبمرور الأيام والسنوات، ابتليت بحالة اخرى ربما هي اكثر إحراجاً وإزعاجاً من حالة الخوف من الطيران، حالة غريبة حقاً، تنتابني كلما شاهدت مظهراً حضارياً، وكلما عايشت حالة عصرية مدنية راقية في بلدان الغرب الأوروبي وما أكثرها، وهي قطعاً حالة لا علاقة لها بالحسد أبعده الله عنا وعنكم، بل مجرد هاجس يلازمني من دون إرادتي، حيث أجد نفسي أقارن بين كل ما أشاهده في بلاد الغرب من تطور وتحضر، وبين ما هي عليه الحال في بلدي الأم سورية وأبحث في الأسباب والمسببات، وعن النتائج والاستنتاجات، بحيث تختلط علي الأمور، وتتكاثر الأسئلة في رأسي، احياناً أجد لبعضها جواباً مقنعاً، وفي أحيان اخرى، تبقى مجرد اسئلة تتكرر وتدور في حلقة مفرغة. ما شاهدته خلال تجوالي في باريس القديمة لم يدهشني كثيراً، ففرنسا معروفة بعراقتها، لكنني وكعادتي أُعجبت بمقدرة اهل باريس على إيقاف الزمن في القسم القديم من باريس، تلك المشاهد الرائعة للمدينة حافظ عليها اهلها كما كانت، من دون ان تلوثها الحداثة، وكأنهم أوقفوا الزمن على أعتاب مدينتهم لتكون شاهداً على تاريخ أمة وعراقتها، فتصبح باريس القديمة اكثر المدن الأوروبي سياحة. لكن يبقى انبهاري بأبناء القراصنة السويديين، وقدرتهم على تطويع الزمن هو الأعظم، ففي فترة من الزمن لا تتجاوز المئة سنة، حولوا بلدهم الفقير الى احد أغنى بلدان العالم وأجملها، ومن بلد هجره ربع أهله في السعي من اجل حياة افضل، الى بلد اصبح قبلة المهاجرين من كل بقاع العالم، لما فيه من خيرات وبركات. ومن بلد يعاني من ملكية مطلقة الى مملكة ديموقراطية لا يضاهيها بلد آخر، وأقف بإجلال كلما تذكرت إنجازات الأجيال المتعاقبة من السويديين، الذين ساهموا في بناء بلد يتكفل بضمان حياة حرة وكريمة لعشرة ملايين مواطن ومواطنة سويدية. شاعرنا الكبير ايليا ابو ماضي قال في الزمن"لا تقولوا دقائق وثواني ذاهبات فالعمر هذي الثواني"، هذه العلاقة بين الزمن والبشر والوعي الحسي بالزمن، حالة يدركها البعض ولا يدركها البعض الآخر، وبالتأكيد نحن ابناء سورية اليوم من البعض الآخر، حيث ما زلنا على هامش الزمن، بكل حسابات وحدات الزمن ومقاييسها، فلم نفلح في وقف الزمن كالفرنسيين للحفاظ على عراقة بلدنا، ولم نطوع الزمن ولم نجاريه كالسويديين لتطوير بلدنا، بل نحن نعيش حالة اللازمن والهامش وفي الوقت الضائع الذي قد لا يعوض. الزمن له سطوة، فبحمد الله والزمن تخلصت اخيراً من عقدة الطيران، ومع الزمن ابتليت بعقدة المقارنة، ولم أستمتع برحلتي الأخيرة من مطار شارل ديغول الفرنسي الى مطار ارلندا السويدي، تائهاً بين عراقة ما رأيت في باريس القديمة والتطور الكبير للمملكة السويدية، وبين هذا وذاك والزمن السوري الضائع، انتهت رحلتي. درويش محمى - بريد إلكتروني