أدرس علوم الترجمة من وإلى اللغتين العربية والإنكليزية، في جامعة في الريف الإنكليزي . المسافة-الرحلة التي أقطعها بين البيت والجامعة -حوالى ساعة بالسيارة– هي من أجمل ما أحياه من تجارب في حياتي الغربية، الغنية والمليئة بالتجارب والأحداث، حيث إن هذه الرحلة تلفت انتباه عقلي إلى ما أَلِفه وعيي خلال 10 سنوات من الإقامة في إنكلترا. هذه الرحلة شبه اليومية هي أشبه بمدرسة، تثبت بالتطبيق العملي ما أتعلمه نظرياً في الجامعة، وهي بذلك أهم وأكثر متعة. في هذه الرحلة، في منتصف الطريق، أمرّ بجانب مصنع لمحركات الطائرات -الرولز رويس- وينتابني إحساس القنبلة. كلما مررت بجانب هذا المصنع لا أستطيع أن أقاوم هذا الإحساس المدهش، غير المفهوم، بأنني أرى هذا المصنع للمرة الأولى، وتخطف أبصاري تلك الطائرة المعروضة أمام ذلك المبنى المتوسط الحجم. ليس هناك أي نوع من الحراسة غير العادية، ولكن وكالعادة في بريطانيا، فإن كاميرات المراقبة منتشرة في كل مكان. لوصف هذا الإحساس الذي باغتني للمرة الأولى عند رؤيتي لهذا المصنع، والذي صرت انتظره يومياً، ربما احتاج الى كل لغات الأرض، وربما لن أنجح في تشخيصه، ولكن ربما أستطيع بأفضل الحالات، أن أتساءل، لعلي أستطيع سبر أغواره. أهو الإعجاب بامتلاك السماء والسيطرة عليها والقدرة على الطيران، أنا الذي كنت صغيراً أحلم بأن أصبح طياراً؟ أهو الإحساس بالعجز أمام هذا التفوق وامتلاك القوة، لأن الفكرة التي زرعت فينا منذ الصغر، هي أننا دائماً ما نخسر الحروب مع إسرائيل لأنها تسيطر على السماء؟ أهو الإحساس بالخوف من المجهول، من غير المعروف، ومن الإحساس بأنه لم ولن أستطيع أن أمتلك هذه المعرفة، في حياتي المحدودة والمحكومة بقوانين وأنظمة كبقية الحيوات؟ أم هو كل هذا وأشياء أخرى لا أستطيع فهمها وترجمتها الى حروف وكلمات؟ زوجتي –الإنكليزية– لا تعير انتباهاً إلى كل هذا، مثلها في هذا مثلي عندما نمر بجانب مبنى المطحنة في قريتي عندما نزور سورية. وهي عبارة -مبنى المطحنة- عن غرفة واحدة ذات جدران متشققة من كافة الجوانب، ولذلك تعشش بها الطيور بكثرة. لا تمل النظر والحديث عن هذه الغرفة –المطحنة- حتى ولو مررنا من هناك كل يوم خلال زيارتنا لسورية التي عادةً ما تدوم شهراً. أعمل مترجماً، فأذهب الى المراكز القانونية للترجمة للاجئين العرب. بعد انتهاء جلسة المحاكمة يسألونني عن أحوالي، وكم من الوقت مضى علي في انكلترا... إلخ، وعندما يتطور الحديث أحياناً، تبدأ غالبيتهم بسبِّ انكلترا و «هذا الغرب الكافر». مع العلم أن هذا الغرب يؤويهم ويقدم لهم المسكن والمأكل والمشرب والتعليم من دون أي مقابل. والد زوجتي، عندما ذهبت لكي أتعرف على أهلها للمرة الأولى، قال لي ما معناه: «اعتبر البيت بيتك، تستطيع أن تأتي الى هنا متى تشاء، ولكن إذا لم ترد أن تأتي فلا عليك، ليس هناك مشكلة، لقد تشرفنا بالتعرف إليك وأنا سعيد لأن يكون لنا صديق من سورية، ذلك المكان الذي كان أول من اخترع الأبجدية». أغرق في بحر من الأسئلة التي لا أجد إجابة لها ومنها: أين الخطأ فينا نحن العرب؟ وماذا يجب علينا أن نفعل كي نصل إلى تلك المرحلة: أن نرى مصنع الطائرات كالمطحنة.