بين مشهد احتضار الزوج في بداية "شهقة الفرس"، الرواية الثانية للكاتبة الجزائرية سارة حيدر الدار العربية للعلوم، ناشرون ومنشورات الاختلاف، وتخمين الزوجة/ الراوية أنها ستشرب من النبع وتستلقي على الأرض وتهدي للريح ابتساماتها الأخيرة في نهاية الرواية، يُشكّل الموت الجزء الناقص من الحياة الذي لا تكتمل إلا به، ويتخذ أسماء شتى تسعى كل شخصية الى اسم منها فتتحقق به. فشخصيات الرواية شخصيات ناقصة، قلقة، تبحث كل منها عن شيء ينقصها حتى إذا ما وصلت إليه تكون قد ماتت. ذلك أن الموت هو الوجه الآخر للحياة، وپ"الحياة"هي الجانب الخارجي للموت"كما يقول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا الذي يشترك بطلا الرواية في الإعجاب به، وتُحيل الكاتبة إليه في مواضع عدة منها. من نقطة قريبة من النهاية تتمثل بمشهد احتضار الزوج تبدأ الرواية على المستوى النصي، وتنتهي في نقطة متقدمة على هذه البداية/ النهاية تتمثل في موت الفرس كولومبيا وتخمين الراوية/"الزوجة أنها ستشرب من النبع نفسه. وبين النقطتين مجموعة من الأحداث المختارة لتأثيث المشهد الروائي. وهكذا، لا يمكن الكلام على خطين متوازيين بين الواقع والنص، فالنص الروائي ليس صورة فوتوغرافية للواقع، والكاتبة تؤثث المشهد الروائي بتفاصيل غير متطابقة من حيث حضورها النصي وتوقيته وموقعه مع حضورها الواقعي. وهذا ما يمنح النص روائيته/ فنيته. ومن هنا، فإن ما تمارسه سارة حيدر في روايتها من تقديم وتأخير وحذف وإضمار وقفز واسترجاع وتذكّر وتخيّل... إنما يدخل في صلب العملية الروائية. تقول الرواية علاقة حب بين كاتب روائي يكتب ولا ينشر ويبحث عن مجهول ما، وبين امرأة متمردة جامحة كفرس تختزن في داخلها كاتباً ولا تسمح له بممارسة ظهوره العلني هي راوية الرواية التي تطارد غيمة ما وتمارس تمردها وجنونها المزمن في حب الحياة والانغماس فيها. وتتعادل الشخصيتان في أن كلاً منهما تدخر شيئاً ما ولا تريد الإفصاح عنه، فالموجود في كلٍّ منهما بالقوة لا يتحول الى موجود بالفعل، هو لا ينشر وهي لا تكتب. وتتعادلان في أن كلٍّ منهما يبحث عن شيء ما ينقصه ويطارده، هو يبحث عن المجهول، وهي تطارد الغيمة الهاربة. وإذ تتكلل العلاقة بينهما بالزواج يُكمل أحدهما الآخر، غير أن النقص يبقى كامناً في كلٍّ منهما. ولعله النقص الذي لا يكتمل إلا بالموت، وهو ما يتحقق بالفعل للزوج في الرواية، ويتحقق بالتمني للزوجة. في"شهقة الفرس"تصطنع الكاتبة راوية واحدة هي الشخصية الرئيسة في الرواية. وهي شخصية متعددة، مركبة. تبدو مسكونة بامرأة المرآة التي تتوق الى التحرر منها والوصول الى وطن ما لعله في عالم آخر. وتبدو مسكونة بجنية الليل حين تستيقظ فيها نيران الشهوة. وتتماهى مع بعض النساء في روايات الزوج ومع كولومبيا فرس حميِّها الجموح التي حيل بينها وبين حبيبها الجواد لضعة أصله والتي تطارد الريح. وهي امرأة تجمع بين المتضادات، تحب زوجها وتخونه، تلبس قناع المرأة الرصينة وتنغمس في مراتع اللذة، تقيم في الواقع وتتطلع الى عالم فوق واقعي، وتنتقل بين الحقيقة والوهم. على أن هذه الشخصية تخضع لتحولات كثيرة لا سيما بعد موت الزوج، فتتردى في مهاوي السأم والغربة، وتموت المرأة في داخلها، وتفقد الأشياء بساطتها في نظرها، ويحيط بها الرعب، حتى إذا ما مات حموها وفرسه كولومبيا اللذان يشكلان مع زوجها كائناً واحداً من وجهة نظرها تقف بقية عمرها على البكاء حزناً على هذا الكائن المثلّث، وتنتظر اللحاق به/ بهم بفارغ الصبر. وحضور الشخصيات الأخرى في الرواية مرهون بحضور الراوية، فهذه الشخصيات حاضرة من خلال علاقاتها بالراوية من جهة، ورؤية الراوية الى كلٍّ منها، من جهة ثانية. غير أن ما يجمع بين الجميع هو أن كل شخصية تعاني في داخلها من نقص ما تسعى الى إكماله، فالراوية تطارد غيمة ما، وامرأة المرآة التي فيها تبحث عن وطن ما، والزوج يجسّد في أثر مجهول ما، وتولستوي الأب يُسرع نحو موته، وكولومبيا الفرس تطارد الريح. وما يُفرِّق بين هذه الشخصيات هو أن بعضها كالزوج والأب والفرس وصل الى ما يبتغيه بالموت، وبعضها الآخر كالراوية لا يزال ينتظر ويُمنّي النفس بالوصول. لذلك، يمكن القول إن"شهقة الفرس"هي رواية داخلية تدور أحداثها داخل الشخصيات أكثر منها رواية خارجية. وكان على الراوية أن تتسلل الى داخل الشخصيات وترصد أفكارها ومشاعرها وخواطرها وتسردها. تتنوّع صيغ السرد وحقوله في الرواية، فحين تستعيد الراوية تفاصيل تتعلّق بها تطغى على السرد صيغة المتكلم. وحين تسرد تفاصيل تتعلّق بالزوج والآخرين تطغى عليه صيغة الغائب وتأتي تسمية هذا القسم من الرواية بپ"أصداء"مناسبة للصوت. وسواء أتعلّق الأمر ب"الأصوات"أم ب"الأصداء"كان ثمة انتقائية مارستها الروائية/ الراوية في سرد وقائع وذكريات معينة تتعلق بهذه الشخصية أو تلك. وهي لم تراعِ التسلسل الزمني في سردها أو الترابط في ما بينها بل أوردتها على شكل وحدات سردية صغيرة تتجاور على الورق دونما ترابط بالضرورة في ما بينها سوى تمحورها حول الشخصية الروائية. ويكون على القارئ أن يُركّب هذه الوحدات ليصنع منها المشهد الروائي حتى ان الوحدات المصوغة بصيغة المتكلم تبدو أقرب الى اليوميات المتناثرة داخل النص. أما على مستوى الحقول فإنها على رغم طغيان حقل الداخل على ما عداه نجد أن السرد يتحرك بين حقول جزئية تندرج ضمن هذا الحقل العام أو ذاك. ومن هذه الحقول: الحياة، الرواية، المرئي، المتخيَّل، المعيش، الثقافي/ الفلسفي... وهذا التنوع في الحقول والصيغ يضفي على الرواية حركية ما. على أن درجة حرارة السرد لم تكن على مستوى درجة حرارة الأحداث، فعلى رغم وجود أحداث درامية في"شهقة الفرس"فإن التعبير عنها كثيراً ما اتسم بالبرودة والحيادية. ولعل هذا ما جعل السرد يتبع مساراً أفقياً لا تتنامى فيه الأحداث ولا تتعقّد في النص، فجاء النص مفارقاً للواقع. وسواء كان السرد حاراً أم بارداً، أفقياً أم شاقولياً، فإن الكاتبة استخدمت لغة سردية سلسة، رشيقة. هي في منزلة وسطى بين الأدبية والمباشرة. تتعدد مستوياتها بتعدد مقتضى الحال، فتقترب من المستوى الشعري في وصف المرأة/ الحبيبة، وتعود الى المستوى العادي في تعاملها مع الواقع. وهكذا، تشكل"شهقة الفرس"نصاً روائياً متماسكاً، ينطلق من الواقع ويقترب من حدود الفلسفة، ويصالح بين الحياة والموت. فتعرف سارة حيدر كيف تحافظ على التوازن الدقيق بين الواقع والفكر، على صعوبة هذه المهمة.