هل استعصى الحل مع قسد    أرقام النصر القياسية تزين روشن    اللجنة المنظمة لكأس آسيا "2027 السعودية" تستعرض جاهزية الاستعدادات للبطولات القارية المقبلة    كريستيانو رونالدو يفوز بجائزة أفضل لاعب في الشرق الأوسط بحفل جلوب سوكر 2025    أمطار متجمدة تغرق مخيمات غزة وتفاقم معاناة النازحين    السعودية وتونس توقعان 5 اتفاقيات في عدد من المجالات    دغدغة المشاعر بين النخوة والإنسانية والتمرد    رفض واسع يطوق قرار نتنياهو ويفشل رهاناته في القرن الإفريقي    مدينة الفل تنثر الثقافة وتروي تاريخ الأجداد    أبها يتمسّك بالصدارة.. والدرعية يقفز إلى الوصافة    الاستديو التحليلي يطوّر قراءة أشواط مهرجان الملك عبدالعزيز للصقور    إيقاف شركة عمرة ووكيلها الخارجي لمخالفة التزامات السكن    أمير حائل يدشّن مشروعات تعليمية بالمنطقة بأكثر من 124 مليون ريال    أمير القصيم يدشّن مبادرة "الهاكثون البيئي" لدعم الابتكارات والأفكار البيئية الرائدة    تهيئة محيط مشروع المدينة العالمية بالدمام وتعزز انسيابية الحركة المرورية    تعليم الطائف يتجاوز المستهدفات الوطنية في برامج ومسابقات الموهوبين    فرع الشؤون الإسلامية بالقصيم ينفّذ أكثر من 2600 منشط دعوي خلال شهر    الندوة العالمية تفتتح مستوصفاً طبياً جديداً لخدمة آلاف المستفيدين في بنغلاديش    إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة    مستشفى الأمير سلمان بن محمد بالدلم ينقذ حياة مقيم تعرّض لإصابة خطيرة    سوق الأسهم السعودية يخسر 109 نقاط في أولى جلسات الأسبوع    بدء استقبال وثائق مقدمي خدمة إفطار الصائمين في رمضان بالحرمين    ترقية د.رانيا العطوي لمرتبة أستاذ مشارك بجامعة تبوك    باكستان تدين اعتراف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما يسمى أرض الصومال    ديوان المظالم يطلق أول هاكاثون قضائي دعمًا للابتكار    ماذا يقفد آباء اليوم ؟!    "التجارة" تشهر ب 60 مواطنًا ومقيمًا لارتكابهم جرائم التستر التجاري    أمانة القصيم تعزز الأجواء الشعبية بفعالية الطبخ الحي في حديقة إسكان بريدة    جمعية فنون التصميم الداخلي تنطلق برؤية وطنية وأثر مستدام    رحل إنسان التسامح .. ورجل الإصلاح ..    علامة HONOR تعلن الإطلاق الرسمي لهاتف HONOR MAGIC8 PRO بعد النجاح اللافت للطلبات المسبقة في السعودية    السماء أكثر زرقة وصفاء في الشتاء لهذا السبب    ختام رائع لمهرجان كؤوس الملوك والامراء 2025    اختتام الدراسة المتقدمة للشارة الخشبية في نجران بمشاركة 40 دارساً ودارسة    إصابة خالد ناري بكسور في القفص الصدري بسبب حارس النصر    في كأس أمم أفريقيا بالمغرب.. الجزائر والسودان يواجهان غينيا وبوركينا فاسو    جيك بول.. ظاهرة تستحق التوقف عندها    رباعي السوبر يعود للدوري الإيطالي.. قطبا ميلان أمام فيرونا وأتالانتا.. ونابولي يلاقي كريمونيزي    وسط تحذيرات أمنية من تصاعد الهجمات.. إسرائيل تكثف عملياتها العسكرية في الضفة    رواية تاريخية تبرز عناية الملك عبدالعزيز بالإبل    لطيفة تنتهي من تصوير «تسلملي»    فسح وتصنيف 70 محتوى سينمائياً    53 مليار ريال حجم الامتياز التجاري    القيادة تعزي رئيس المجلس الرئاسي الليبي في وفاة رئيس الأركان العامة للجيش الليبي ومرافقيه    موجز    دعا لتغليب صوت العقل والحكمة لإنهاء التصعيد باليمن.. وزير الدفاع: لا حل ل«القضية الجنوبية» إلا بالتوافق والحوار    أفراح التكروني والهوساوي بزواج محمد    ضمن جهودها لتعزيز الرقابة الصحية.. جولات رقابية لمراكز فحص العمالة الوافدة    الداخلية: ضبط 19 ألف مخالف    مسيرات الجيش تحدّ من تحركاته.. الدعم السريع يهاجم مناطق ب«الأبيض»    عصير يمزق معدة موظف روسي    مختص: لا ينصح بأسبرين الأطفال للوقاية من الجلطات    وزير الداخلية: يطمئن على صحة رجل الأمن الجندي ريان آل أحمد    إطلاق 61 كائنًا بمحمية الملك خالد    أمير المدينة يتفقد العلا    بيش تُضيء مهرجان شتاء جازان 2026 بهويتها الزراعية ورسالتها التنموية    وزير الداخلية تابع حالته الصحية.. تفاصيل إصابة الجندي ريان آل أحمد في المسجد الحرام    تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وزير الداخلية يطلع على مبادرات الجوف التنموية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألف وجه لألف عام - "الجزيرة الغامضة" لفيرن : المعرفة مقابل الطبيعة
نشر في الحياة يوم 04 - 01 - 2006

يتحدث الاختصاصيون في أدب جول فيرن وحياته، بشيء من الدهشة وكثير من التساؤل، دائماً، عن أمر توقفوا عنده طويلاً. فهم اذ قارنوا بين مخطوطتين تضم كل منهما النص الكامل لرواية"الجزيرة الغامضة"مع بعض التعديلات الطفيفة بين مخطوطة وأخرى، لاحظوا انه في الصفحة التي يلفظ فيها الكابتن نيمو أنفاسه الاخيرة، ثمة عبارة في المخطوطة الاولى ترد على النحو الآتي:"ثم، اذ همس بكلمة استقلال، اسلم نيمو الروح بكل هدوء". اما في المخطوطة الثانية، فإن جول فيرن محى بخط يده، كلمة"استقلال"من العبارة نفسها ليكتب كلمتي"الله والوطن". في شكل عام يعزو الخبراء هذا التبديل، الى الرقابة الصارمة التي كان الناشر هتزل يفرضها على كتابات جول فيرن في آخر ايام هذا المؤلف، ومع هذا يلفت نظرهم حقاً، ان فيرن قام بالتبديل بنفسه... وهم - أي الخبراء - على رغم انكبابهم سنوات طويلة على محاولة فهم السبب الذي كمن وراء ذلك التعديل، عجزوا عن ذلك، اذ ليس ثمة لا في حياة فيرن، ولا في مواقف هتزل، ولا في الاوضاع السياسية العامة في فرنسا في ذلك الحين ما يفسر الامر. المهم ان النسخة التي طبعت وموجودة بين ايدي الناس، منذ نشر رواية"الجزيرة الغامضة"في العام 1874، هي النسخة المعدلة، حيث ألغيت فكرة الاستقلال من الوصية الاخلاقية للكابتن نيمو ليتحدث هذا، مكانها، عن "الله والوطن".
طبعاً لا يبدل هذا الامر شيئاً من جوهر هذه الرواية التي تتوسط، مسار جول فيرن الروائي، وتعتبر في شكل عام اشبه بخاتمة لثلاثية روائية"بحرية"لجول فيرن تضم الى جانبها، روايتين سابقتين هما"ابناء الكابتن غرانت"وبخاصة"عشرون ألف فرشح تحت الماء"التي تبقى، في الاحوال كافة، واحدة من اجمل روايات جول فيرن واشهرها. ونذكر هنا ان"الجزيرة الغامضة"تتألف بدورها من قسمين هما"غارقو الجو"وپ"المهجور". وفي شكل عام يرى دارسو ادب جول فيرن انه انما حاول في"الجزيرة الغامضة"ان يقدم ما يمكن اعتباره معادلاً معاصراً لرواية"روبنسون كروزو"لدانيال ديفو، مع فارق اساسي، يكمن في جماعية التوجه. فاذا كان روبنسون كروزو في الرواية الشهيرة التي تمت بألف صلة وصلة الى"حي بن يقظان"للفيلسوف الاندلسي ابن طفيل، يمثل وحده البعد الانساني المعرفي في مواجهته للطبيعة وفرض نفسه عليها، فان لدينا هنا خمسة اشخاص يمثلون معاً الانسانية ليس في حالها البدائية السقراطية - بمعنى ان المعرفة كامنة داخل الانسان يكفي تضافر ظروف وأسئلة لابتعاثها من داخل اعماقه من دون ان يكون قد تعلمها بل الانسانية في الحال المعرفية الواضحة بمعنى ان هؤلاء الخمسة انما هم هنا ممثلو حضارة واعية قائمة على العلم والاخلاق معاً: وهم انطلاقاً من ادراكهم لحضارتهم هذه ووعيهم امكاناتها، يتعين عليهم هنا ان يجابهوا الطبيعة وقواها العاتية. ويرى الدارسون ان هذا الفارق الاساسي في الذهنية بين البشر لدى جول فيرن، والانسان لدى روبنسون كروزو، انما يجعل من"الجزيرة الغامضة"رواية تعكس تماماً الذهنية الفكرية التي سادت اوروبا، وفرنسا خصوصاً، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان فيرن من ابنائها.
فما هو موضوع هذه الرواية اذاً؟ في شكل عام تعتبر احداث"الجزيرة الغامضة"نوعاً من الاستطراد لاحداث"ابناء الكابتن غرانت"ثم"عشرون الف فرسخ تحت الماء"كما قلنا، من ناحية انها تصب في نهاية الامر وسط البحار، بل تستعيد اشخاصاً كان لهم حضورهم الاساسي في الروايتين السابقتين، حتى وان لم تعد لهم اهميتهم السابقة هنا. والأحداث الممهدة لذلك تدور أيام حرب الانفصال الأميركية - التي كثيراً ما ألهمت جول فيرن وغيره من الكتاب الفرنسيين. يومها يحدث أن أسرى كانوا وقعوا بين أيدي الجنوبيين يتمكنون من الهرب من سجنهم ومن ثم الاستيلاء على منطاد - أو مركبة تشبه المنطاد - يبارحون بواسطته الأراضي الأميركية طيراناً. ولكن ما إن تصل بهم الآلة الى اجواء المحيط، حتى تجتذب بؤرة مائية مغناطيسية الآلة مسقطة إياها وفي داخلها ركابها، على شاطئ جزيرة مهجورة غامضة لا يعرف أي منهم مكاناً لها على الخريطة. وإذ يتجول الخمسة في أنحاء الجزيرة يكتشفون انها صحراوية خالية من أي مصدر للحياة أو للغذاء. وهكذا يصبح همّ الخمسة وهم المهندس سيروس سميث، والمدعو جديون سبيليت، والزنجي ناب والبحار بنكروف وأخيراً الفتى هربرت هو العثور على ما يساعدهم على مجابهة ذلك الموقف. بيد أن حيرتهم لن تطول، ذلك انهم إذ يتوغلون أكثر وأكثر في الجزيرة وقد وصلوا الى قمة اليأس، يكتشفون ان الثروات فيها رائعة وكريمة. وهم إذ يطلقون عندئذ اسم لنكولن على الجزيرة، يبدون وكأنهم آمنوا جميعاً بأن العناية الإلهية هي التي انقذتهم وأعطتهم ما أعطت. ثم بعد حين تتزاحم الأحداث والمواقف، خصوصاً انهم في شكل مفاجئ يجدون أنفسهم أمام رسالة غامضة تتيح لهم ان يعثروا هناك على آرتون، عامل السخرة الذي كان اللورد غلينا رفان قد تركه وحيداً على جزيرة صغيرة مجاورة في رواية"أبناء الكابتن غرانت" وها هم الآن ينقذونه من مصير بائس بدا مكتوباً له. وهم ما إن يقدموا على ذلك، حتى يلوح لهم من ناحية أخرى جواب عن سؤال كان يشغل بالهم، وبال قراء جول فيرن بالتالي، بالنسبة الى المصير الغامض - بدوره - الذي كان من نصيب المركب"نوتيليس"الخاص بالكابتن نيمو في رواية"عشرون ألف فرسخ تحت الماء"، إذ ها هم يكتشفون ان هذا المركب قد التجأ بطريقة غامضة الى هذه الأنحاء، وفيه فائدة الكابتن الشهير. وهكذا يتاح لمغامرينا الخمسة أن يلتقوا نيمو ويشهدوا على رحيله، اذ انه يسلم الروح بعد فترة وجيزة من اللقاء هامساً كلمتي"الله والوطن"بدلاً من كلمة"استقلال"كما أشرنا. غير أن نيمو لن يموت قبل أن يقدم لهم من العون ما يمكّنهم من العودة الى وطنهم وفي صحبتهم آرتون.
اذاً، ها نحن هنا أمام عمل لجول فيرن، يبدو في شكله الخارجي، مجرد رواية مغامرت ذات مكان واحد تقريباً، وعدد محدود جداً من الشخصيات، وحافلاً بالمفاجآت التي كان من شأنها ان القت السرور في أفئدة قراء أدب فيرن الذين أدهشتهم تلك"التقنية الجديدة"التي جعلت الكاتب يحل في رواية جديدة له، الغازاً كان تركها معلقة في روايات سابقة. غير ان الأهم هنا هو أن"الجزيرة الغامضة"لم تكن مجرد رواية الغاز ومغامرات، بل أتت عملاً فكرياً يكاد يلخص ايمان الكاتب بالانسان وبالفكر الانساني القائم على سلطة المعرفة، وعلى قدرة الحضارة على أن تقدم للإنسان ليس أجوبة نظرية فقط، بل حلولاً عملية أيضاً.
ومن هنا فإن"الجزيرة الغامضة"تقف وحيدة في سياق عمل جول فيرن 1828 - 1905 من ناحية طغيان الجانب الفكري والفلسفي فيها، على الجانب الروائي، ويبدو هذا الأمر لافتاً، اذ كتب فيرن"الجزيرة الغامضة"في مرحلة من حياته ومساره تميزت بكتابته أعمالاً طغت عليها المغامرة والأحداث - مع التفاتة خاصة، وان كانت غير أساسية - ناحية العلم، مثل"حول العالم في ثمانين يوماً"1873 وپ"ميشال ستروغوف"1876... هو الذي كان، عامين قبل"الجزيرة الغامضة"قد أصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.