في كتاب له عنوانه "رسائل من تونكين ومدغشقر" يروي الجنرال ليوتي، رجل الاستعمار الفرنسي الذي عرفته أرض المغرب جيداً عند بدايات القرن العشرين، كيف انه كان يخوض محادثة مع موظف في الادارة الفرنسية يتميز بأفكاره الرجعية والمتخلفة. وكانت المحادثة تتركز على مستقبل العلم والاختراعات. بعد أن عرض ليوني آراءه التقدمية طويلاً، قال له الموظف منهياً الحديث: "ان هذا كله، سيدي الجنرال، خيال ينتمي الى عالم جول فيرن"، فأجابه ليوني بهدوء: "أجل، يا سيدي العزيز، انه ينتمي الى عالم جول فيرن. والناس الذين يسيرون قدماً الى الأمام منذ عشرين عاماً، لا يفعلون إلا ما ينتمي الى عالم جول فيرن". قد يكون من قبيل المبالغة بعض الشيء القول ان كل اختراعات بدايات القرن العشرين ومغامراته تدين بالكثير الى ذلك الكاتب الفرنسي ذي الخيال الواسع، الذي تحدث باكراً عن غزو الفضاء، والغواصة، والصاروخ والغازات القاتلة والمدافع طويلة المدى والبالون والطائرة، حتى قبل أن يفكر مخترعوها باختراعها. ولكن من المؤكد ان جول فيرن تنبأ بكثير من الاختراعات، ومن المؤكد أكثر ان عدداً من المخترعين، قرأ في شبابه روايات جول فيرن وتأثر بها. وجول فيرن كان، على أي حال، هو الذي قال: "ان كل ما يمكن للانسان أن يتخيله، سيأتي آخرون يكونون قادرين على تحقيقه". وحتى اليوم، بعد مرور قرن تقريباً على رحيل جول فيرن، نعرف أن العلم والتكنولوجيا حققا معظم ما كان بالنسبة اليه مجرد خيالات كاتب. كتب جول فيرن خلال حياته نحو سبعين رواية، نالت في زمنه، ولا يزال لها في زمننا هذا، شعبية ندر أن حظيت بها روايات أي كاتب آخر. لقد أقبل القراء، الفرنسيون وغير الفرنسيين، على قراءة روايات فيرن في شكل لا سابق له، ما دفع بعض النقاد الى التساؤل: لماذا هذا الاقبال على أدب يبدو للوهلة الأولي ثانوي الأهمية، جمالياً وأدبياً؟ والحال ان الجواب على هذا السؤال أتى في شكل عملي طوال القرن العشرين، بفعل تضاعف الاقبال ألوف المرات على كل ذلك الأدب الخيالي العلمي، الذي كتبه مئات المؤلفين الذين لم يفتهم اعلان انتمائهم الى أدب جول فيرن، ما جعله يعتبر الأب الشرعي لهذا النوع من الأدب الذي سرعان ما استولت عليه السينما وجعلته موضوع أروع أفلامها. في رواياته خاض جول فيرن كل أنواع المغامرات، وتصور كل الانجازات العلمية الممكنة. ولكن هناك رواية واحدة له، ظل موضوعها عصياً على التحقق حتى الان على الأقل. ذلك أن جول فيرن وصل في تلك الرواية الى مستويات من استخدام الخيال، من الصعب ايجاد معادل لها في الحقيقة. الرواية التي نعنيها هي "رحلة الى باطن الأرض". ولافت هنا أن يصل خيال فيرن الى هذا المكان العادي الى درجة اننا ننساه. لافت ان رحلاته الى الفضاء و أعماق البحار، والى الماضي والمستقبل تحققت على رغم غرابتها واستحالتها الظاهرة، فيما لم تتحقق تلك الرحلة التي من الصعب على خيال الانسان أن يتصورها، أصلاً، ليس لصعوبتها، بل لأنها كان يمكن أن تبدو كالبديهية. ومع هذا، ها هي نبوءة جول فيرن في هذا المجال لم تتحقق. والسؤال: هل يحققها القرن الواحد والعشرون؟ وإن حققها هل سيقيض للداخل الى باطن الأرض أن يعثر على ما يصفه جول فيرن فيها بكل دقة؟ في "رحلة الى باطن الأرض" أو الى مركز الأرض، رواية المغامرات التي نشرها جول فيرن في العام 1864، تبدأ الأحداث في منزل هادئ في حي عريق بمدينة هامبورغ الألمانية، حيث يطالعنا الشاب آكسل الذي يعين عمه، عالم الجيولوجيا والمعادن، في بعض أشغاله ويبدو متيماً بحسناء تدرس لدى العم. ذات يوم يعثر آكسل في مخطوطة قديمة، على نص يروي فيه مشعوذ ايسلندي من القرن السادس عشر، كيف دخل الى باطن الأرض عبر فتحة في بركان خامد في ايسلندا. وعلى الفور يشرع العم وابن اخيه ودليل ايسلندي غريب الأطوار، في القيام بتلك الرحلة وقد اقتنع العم بصدق ما ترويه المخطوطة. وهكذا تبدأ مغامرة عجيبة تقود الرجال الثلاثة الى مركز الأرض عبر طبقاتها المتراصة فوق بعضها البعض. ويمكننا ان نتصور كيف ان جول فرين استخدم كل ما لديه من خيال وتصور وأبعاد فنية لكي يصف، ليس فقط المغامرات المهلكة التي يعيشها هؤلاء الثلاثة، والصراعات بينهم، بل كذلك المشاهد التي يتصور الكاتب انها تطالع الزائرين. وهي مشاهد تتسم بالروعة والرهبة، وكذلك بلحظات الخوف والدهشة، إذ ان جول فيرن حرص على أن يجعل من باطن كوكب الأرض، صورة لتاريخ الكون وجغرافيته، مسكناً فيه كائنات يمكن ان تكون عاشت يوماً فوق سطح الأرض، ملمحاً الى وجود بشر سبق لهم بالفعل ان وجدوا في ذلك المكان، وحرصوا على ترك إشارات تنم عن وجودهم. إن باطن الأرض مليء بالنسبة الى جول فيرن، بأغرب النباتات، وأعجب البحار، والصحاري والغابات، انه عالم بكر غريب، يلوح وكأنه الكون نفسه قبل وجود الخليقة، أو حتى بعد فنائها. وفي هذا العالم، على مدار الرحلة، يكون هناك ضياع، وعطش وجوع وصراع بين كائنات خرافية، وعواصف وزلازل وطوفان. ويكون هناك سقوط للمغامرين الثلاثة في وهاد غير مرئية، وغرقهم في مياه تعبر انفاقاً مدهشة. ويتواصل ذلك حتى ينفجر بركان يأخذهم معه ليرميهم في جزيرة سترومبولي في البحر الأبيض المتوسط، غير مصدقين انهم نجوا، وأنهم عاشوا تلك المغامرة التي بدت احياناً كالحلم واحياناً كالكابوس. إن كثراً من النقاد يعتبرون "رحلة الى باطن الأرض" اجمل اعمال جول فيرن وأقواها، من الناحية الأدبية والسردية بالتأكيد، حيث ابدع فيرن بشكل استثنائي في وصف المشاهد الطبيعية، وكذلك في وصف الحالات النفسية وكان هذا جديداً عليه لأبطاله الثلاثة. لكن الرواية كانت من اجمل اعمال الكاتب، ايضاً، لأن ما يوصف فيها، لم يتحقق. وهكذا اجتمع هنا سحر الكتابة وسحر المجهول. عندما كتب جول فيرن "رحلة الى باطن الأرض" كان قد بلغ قمة شهرته، وكان قد وقّع لتوه مع الناشر هتزل، الذي به سيرتبط اسمه لاحقاً، عقداً مدته عشرين سنة ينص على احتكار هتزل لكتابات فيرن ونشرها. وهذا ما مكّن الكاتب ان يحقق ثرورة ضخمة، إذ راحت رواياته تنشر وتباع بمئات ألوف النسخ وتترجم الى شتى اللغات الأوروبية، كما وصل صيته الى الولاياتالمتحدة حيث راح القراء يقرأونه بنهم. ولد جول فيرن العام 1828 في نانت، ابناً لعائلة ثرية. وهو درس أولاً في نانت ثم استكمل دراسته في باريس. وبدا عليه هناك النهم الى القراءة فراح يقرأ بشكل وسّع خياله. ولقد كان لقاء له مع الكسندر دوما حاسماً في حياته إذ دفعه ذلك الى الكتابة، وبدأ ينشر منذ العام 1852 قصصاً حافلة بالمغامرات، ثم بدأ يخوض ادب الخيال العلمي، وأدب الحكايات التاريخية. ثم دخل بورصة باريس لاستثمار ما يربحه، وبدأ يسافر أولاً، في وسائل سفر عامة، ثم في يخته الخاص، وراحت سفراته توسع آفاقه ومداركه. وكل ذلك انعكس في اعماله الرائعة من "رحلة الى القمر" الى "عشرين الف فرسخ تحت الماء" و"ميشال ستروغوف" و"أبناء الكابتن غرانت" و"غزو البحر" التي نشرت العام 1905 في العام نفسه الذي مات فيه جول فيرن، والعام نفسه الذي بدأت فيه التجارب حول الطيران، الذي كان واحداً من نبوءات هذا الكاتب الحالم.