استخدم جول فيرن الخيال العلمي للانتقال عبر أجنحته إلى آفاق زمنية بعيدة، وقد ساعدته في ذلك الاكتشافات العلمية والصناعية التي تحققت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، كما ساعدته معرفته العلمية في المزج بين العلم والخيال، فخاض، عبر القصة والرواية، رحلاته الغربية والعجيبة في جوف الأرض وأعماق البحار ونحو القمر وكواكب أخرى، وهذا ما جعل كتابات جول فيرن أشبه بنبوءة عاش العالم لاحقاً وقائعها. بعد الأعمال الأولى التي لم تعرف نجاحاً كبيراً، كتب جول فيرن سنة 1863 أول رواياته الشهيرة وعنوانها "خمسة أسابيع في منطاد"، تلتها سنة 1864 رواية أخرى بعنوان "رحلة إلى مركز الأرض". وفي عام 1865 أنجز روايته "من الأرض إلى القمر"، كتب بعدها روايات وقصصاً عدة أخرى. لم يكن جول فيرن أول من خاض مغامرة أدب الخيال العلمي، فقد سبقه إلى هذا النوع من الأدب، وبحسب تعبيره هو نفسه، عدد من الكتاب الغربيين ومن بينهم السويسري ريس رودولف والفرنسي روبنسون كلوزي والإيطالي ايميليو سولغاري والأميركي ادغار بو. وكان جول فيرن على حدّ قوله أيضاً من قراء هؤلاء الكتاب. يقرأهم بدهشة ومتعة، لكنه يعترف - وهذا لأمر مثير للعجب - بأنه لم يكن من هواة العلوم بقدر ما كان من هواة مراقبة الآلة وحركتها لدرجة أنه كان ينبهر لرؤيته الآلة انبهاره لرؤية عمل فني رائع. ولد جول فيرن عام 1828 في مدينة "نانت" الفرنسية حيث قضى سنوات شبابه الأولى. بعدها انتقل إلى مدينة "اميان" التي فيها أنجز فيها معظم كتبه وتوفي عام 1905. درس الحقوق مثل والده، لكنه فضّل الأدب على مهنة المحاماة، فعاش ومنذ البداية من مردود رواياته التي تحولت إلى مسرحيات. وفي أوائل عام 1862 تعاقد لمدة أربع سنوات مع صديقه الناشر بيار جول هيتزل الذي كان من أهم أصحاب دور النشر آنذاك. وكان من شروط هذا التعاون المشترك أن تدور روايات الكاتب حول الاكتشافات العلمية والصناعية الجديدة وبأسلوب شيق وجذاب يشدّ انتباه القراء. هكذا انخرط جول فيرن في مشروع كتابة الروايات العلمية فخصص معظم وقته لقراءة الصحف وزيارة المكتبات والمعارض العالمية التي كانت تقام في باريس آنذاك، والمشاركة في عشرات المؤسسات الفكرية والعلمية، هذا إضافة إلى مصاحبة أساتذة الجغرافيا والفيزياء والرياضيات، ومراسلة المهندسين في علوم الأرض والبحار، مما سمح له بجمع المعلومات الواسعة وتعميق معرفته بدقائق المواضيع التي تطرّق إليها في كتبه، فجاءت كتبه لتكشف إلى أي مدى كان ملازماً لأحداث عصره وللثورة العلمية التي طبعت ذلك العصر، بل ذهبت كتبه أبعد من ذلك حين اندمجت بحدسه الأدبي وبمخيلته الجامحة، فوصلت به إلى القمر قبل الوصول الفعلي إليه بأكثر من مئة عام. والأمر ذاته أيضاً ينطبق على سبر أعماق الماء والبحار والأرض. احتفالاً بالذكرى المئوية لوفاة فيرن الواقعة في 24 آذار مارس 2005، وتكريماً لهذا الرجل الذي ساهم في تبسيط اللغة العلمية وتقديمها للجمهور الواسع، خصصت فرنسا العام الحالي عاماً للاحتفال بكاتبها، وقد نظمت من أجل ذلك برنامجاًً حافلاً بالنشاطات العلمية والثقافية والفنية، يتوزع في كل المدن الفرنسية وخصوصاً في باريس ومدينتي "أميان" و"نانت" حيث ولد وعاش. في هذا الإطار سيحتضن متحف البحرية في باريس معرضاً تحت عنوان "جول فيرن ورواية البحر" الذي سيستمر إلى غاية شهر آب أغسطس المقبل، وسيقدم فيه تصميماً لسفينة "غريت ايستارن" المتخيلة والتي سافر على متنها الروائي وطالعتنا في أكثر من كتاب له. أما "مدينة العلوم والصناعة" في باريس فقد خصصت برنامجاً علمياً مكثفاً لمدة ثمانين يوماً انطلاقاً من أعمال جول فيرن وهو موجه للجمهور الواسع، ويتضمن قراءات وأفلاماً ومحاضرات ومحترفات تجريبية للصغار. ومن المقرر أن يخصص أيضاً مهرجان سينما الخيال في باريس دورته الثالثة عشرة في نيسان ابريل المقبل للاحتفال بالكاتب وأعماله في حضور كل من ستيفان سبيلبرغ ومايكل كروشتن. من جهتها، تشهد مدينة "أميان" انطلاقة برنامج يضم أكثر من خمسين تظاهرة، أولها مهرجان لموسيقى الجاز يشتمل على ثمانين حفلة موسيقية مهداة لربّان البحار، إشارة إلى رواية "حول العالم في ثمانين يوماً". تشارك في هذا المهرجان فرق من جميع أنحاء العالم، بخاصة تلك البلدان التي زارها "فلياس فوج" بطل الرواية المذكورة، إضافة إلى تقديم مسرحية بعنوان "زيارة ملك الهند" التي ستنتقل في ما بعد لتعرض في كل من مدينتي لندن وبيلباو الاسبانية. هذا ويحتفل بهذه الذكرى الكثير من دول العالم، منها: المكسيك، النروج، إيطاليا والولايات المتحدة الأميركية. يعتبر فيرن عن حقّ مؤسس نوع جديد من الكتابة ألا وهو رواية الخيال العلمي، كما يعتبر الكاتب الفرنسي الأكثر ترجمة في العالم بعد التوراة. ولا تزال المواضيع التى تناولها في رواياته جدّ حديثة، ومن روائعه: "من الأرض إلى القمر"، "رحلة في جوف الأرض" و"عشرون ألف فرسخ تحت الماء" التي بدت كلّها بمثابة تنبؤات تحولت في القرن العشرين إلى حقيقة معاشة. فإذا كان أفلاطون هو من فتح المجال بمدينته الفاضلة لفلاسفة ومفكرين جاؤوا من بعده، فقد دشّن فيرن رواية الخيال العلمي ويعدّ اليوم الأب الروحي لها مثله في ذلك مثل أوغست كونت وفرانسوا فيجييه وسان سيمون. ترك فيرن بالفعل أثراً كبيراً في أجيال كاملة من الكتاب والأدباء، منهم رامبو الذي نلمس حضور "القبطان نيمو" في كتابه "المركب السكران"، كما نلمس تأثيره في كل من بروست وكوكتو ورولان بارت وأومبرتو ايكو الذي صرح في أكثر من مناسبة بأن روايات فيرن كانت حاضرة في طفولته وكانت واحدة من قراءاته المفضلة. وساهم فيرن في مساعدة ملايين القراء على الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب فسنّ الرشد في رحلة حول العالم وكواكبه وكائناته، لذلك فهو يقدم الاكتشافات الأولى المفتوحة على الخيال والحرية والحلم. أمام أعمال هذا الكاتب والتي تتجاوز المئة بين الرواية والقصة نشعر أننا نغوص في ميادين العلوم والتكنولوجيا والاكتشافات التقنية التى عرفتها الثورة الصناعية الثانية. معه نطّلع على تفاصيل الاكتشافات الصناعية وتأثيراتها في كل المجالات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كظهور السكك الحديد والإنارة العمومية والآلات الصناعية المختلفة. ويظل الإنسان، قبل العلم وبعده، العنصر الأساس في أعمال فيرن. ومنذ الرواية الأولى أبدى الكاتب إعجابه بإيجابيات الاكتشافات العلمية وبسلبياتها ولم يخف أحياناً الإشارة إلى سوء استعمالها. ألم يجعل من شخصيات رواياته من أمثال نيمو وروبور، وهم علماء ومغامرون، عناصر خطرة على المجتمع وعلى الحياة في الأرض تماماً كما هو الحال أحياناً في يومنا هذا؟ وإذا كان فيرن وعى أن الثورة العلمية لا يمكن تقويمها إلا على أساس كيفيات استعمالها، فلم يكن هذا الوعي النقدي حاضراً فعلياً إلا في خلفية كتاباته التي ركزت بصورة أساسية على المغامرة والسفر والحلم من أجل التحليق بالقارئ إلى ما هو أبعد من المكان والزمان. تبقى الإشارة إلى أن مناسبة الاحتفال بجول فيرن، ككل المناسبات الكبرى في باريس، فرصة جديدة لنشر الكتب وإعادة نشرها. من هنا تطالعنا في المكتبات الفرنسية اليوم كتب الكاتب في طباعة جديدة، للكبار والصغار معاً، وللصغار في المقام الأول، إذ أصدرت بعض دور النشر الباريسية ومنها "أكت سود" و"ألبان ميشال"، أشهر كتب فيرن في حلة أنيقة مزينة برسوم تحمل تواقيع عدد من الفنانين المعروفين. إلى جانب ذلك صدرت دراسات كثيرة حول الكاتب قام بها بحّاثون متخصصون في أدبه، هذا إضافة إلى كتاب يجمع للمرة الأولى الرسائل غير المنشورة التي كان يتبادلها جول فيرن وناشره بيار جول هيتزل وتغطي الفترة الممتدة بين 1863 و1886.