خلال فترة حصار الرئيس عرفات كان الفلسطينيون مقتنعين بأن شارون يتهم"ابو عمار"بالارهاب كي يستخدمه مشجباً يعلق عليه جرائمه التي يرتكبها بحق الناس في الضفة والقطاع، بدءاً من سجن الرئيس في مقره، مروراً بالمادهمات والاغتيالات والاعتقالات، وانتهاء بنسف البيوت وقطع الاشجار. وبعد وفاة عرفات بمرضه"المجهول"، أجمع الفلسطينيون، من دون دليل طبي أو أمني ملموس، على ان شارون دس السم لرئيسهم وتخلص منه. ولم يغير التقرير الطبي الغامض الذي تسلمته السلطة من باريس قناعتهم، ولا يزال الأمر محيراً لكل من لا يزال يتذكر. في حينه، احتار المراقبون في تفسير التناقض بين حاجة شارون الى عرفات كمشجب وبين التخلص منه. وكان جواب الخبراء بعقلية زعيم لليكود"وأساليب عمل المؤسسة الأمنية الاسرائيلية مقنعاً، خلاصته عرفات اغتيل في اطار توجهات شارون استبدال"المشجب"بنشر الفوضى في الضفة والقطاع، خصوصاً بعدما تأكد ان عرفات ظل من سجنه يسيطر على الموقف وبامكانه الصمود سنوات، ووجوده يبقي الفوضى في الساحة الفلسطينية تحت السيطرة و"منظمة"بالحدود التي يريدها عرفات. اعتقد بأن استخدام هذا الاستنتاج في قراءة الاحداث وتفسير مواقف شارون وأركانه منذ رحيل عرفات، ينهي الحيرة في شأن موقف اسرائيل السلبي من محمود عباس منذ انتخابه حتى اليوم. ويفسر الغموض المتعمد غير البناء في موقف شارون والمؤسسة الأمنية الاسرائيلية في مسألة"خطة الانفصال"واجلاء المستوطنين عن قطاع غزة واربع مستوطنات معزولة في شمال الضفة. وبصرف النظر عن الحديث الاسرائيلي واحياناً الفلسطيني عن تحقيق تقدم في التنسيق لتنفيذ"الانسحاب"واخلاء المستوطنين، فمجرى الاحداث على الارض في قطاع غزة لا يبين شيئاً من هذا القبيل. ولم نلحظ تطورات سياسية أو أمنية نوعية تدفع القيادة الاسرائيلية الى تغيير موقفها السلبي وتجبرها على التزام تنسيق الخطوة من اجهزة الأمن الفلسطينية. لقد رفض شارون قبل أقل من شهر في لقائه مع"ابو مازن"في القدس، التعاون مع اجهزة السلطة في شأن"الانسحاب". ورفض طلبات متواضعة قدمها عباس ورئيس حكومته قريع تتعلق بتسهيل تعزيز قدرات الشرطة الفلسطينية وتمكينها من حفظ الأمن في المناطق التي سيتم"الانسحاب"منها. ورفض شارون تعزيز مكانة عباس وسلطته واطلاق سراح دفعة جديدة من المعتقلين، وحتى الآن لم تنسحب قواته من بيت لحم وبقية المدن الفلسطينية الخمس. وفي اللقاء ذاته، عاتب شارون عباس على تقصيره في محاربة الارهاب وطالبه تجريد"حماس"وقوى المعارضة من اسلحتها، وتسليح الشرطة الفلسطينية بما يصادره منهم. وتوترت علاقة الرجلين اكثر. ولم تفلح وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في زيارتها الاخيرة لتل أبيب ورام الله في رأب الصدع. والكل يعرف ان لقاءاتها لم تغير في موقف اسرائيل. واكتفت بالاشادة بشجاعة شارون وبخطوته التاريخية، وتعهدت تقديم توصية للرئيس بوش تقديم دعم مالي سخي ل"خطة الانفصال"، ولم تحاول الضغط والزام شارون التنسيق مع الأمن الفلسطيني والتجاوب مع طلبات عباس المتواضعة. وفي رام الله انصب اهتمام السيدة الوزيرة على شرح أهمية خطوة شارون، وطالبت عباس وقريع بالتحلي بالصبر ومساعدة شارون"المسكين"الذي يواجه متاعب كبيرة داخل حزبه ومع المستوطنين. وبديهي القول إن الشيء الذي لم يعطه شارون للوزيرة رايس والرئيس عرفات لن يعطيه لدحلان مسؤول ملف"الانسحاب"ولا لوزير الداخلية نصر يوسف. ولا يزال شارون وأركانه يماطلون في اعطاء اجابات ملزمة على اكثر من عشرة ملفات منها: ادارة معبر رفح، بناء الميناء، تشغيل المطار، وجود الجيش الاسرائيلي في محور فيلادلفي، دور الطرف الثالث، الجدول الزمني للانسحاب، ترتيبات عملية الاخلاء وتسلسلها الجغرافي، الممر الآمن بين الضفة والقطاع، مصير المنازل والمنشآت، قيمة استغلال الارض والمياه مدة 38 سنة... الخ. وأياً كان موقف شارون واهدافه، اعتقد بأن المصالح الفلسطينية العليا وضمنها مصالح"حماس"وقوى المعارضة تقتضي التعامل مع"الانسحاب"باعتباره مكسباً وطنياً مهماً، يحرر جزءاً عزيزاً من الارض وأكثر من مليون و300 ألف فلسطيني من نير الاستعمار. وهذا الانجاز لم يحققه طرف بعينه، ولا يحق ل"حماس"او سواها هضم حقوق مناضلين آخرين، والادعاء بأنه نتاج جهدها وحدها. انه حقاً نتاج جهد كل قوى الشعب وصمود الناس في ارضهم ومخيماتهم ومدنهم وقراهم في الضفة والقطاع وفي الشتات. وهو ثمرة تضحيات الشهداء والاسرى والمعتقلين والمرأة والطفل والعامل والموظف والطالب والفلاح. الى ذلك، يمكن القول ان الاشتباكات المسلحة التي وقعت قبل ايام بين قوات الشرطة الفلسطينية ومسلحي"حماس"، وقصف بلدة سديروت والمستوطنات بالصواريخ والهاونات لا تصب في مصلحة معالجة الأزمة الداخلية، وتسمم اجواء العلاقات الوطنية وتزيد في خسائر الفلسطينيين. ولم تخف القيادة الاسرائيلية انزعاجها من عدم اندفاع عباس ووزير داخليته نصر يوسف في قتال"حماس". واعتبرت جهات أمنية اسرائيلية حصيلة الصدام في مصلحة"حماس"، إذ احتفظت بأسلحتها وظلت المناطق والاحياء"الحمساوية"الحساسة محروسة من مسلحي الحركة وشبه مغلقة في وجه رجال السلطة. وقدر البعض ان نزول قوات"المرابطون"الحمساوية في شوارع غزة وزواريب المخيمات، هو استعراض عضلات مقصود، ومناورة بالرصاص الحي و"بروفة"أجرتها الحركة تمهيداً للسيطرة على القطاع بعد"الانسحاب". لا شك في ان محاصرة وتطويق الاشتباكات يستحق الثناء والتقدير، ولكن السؤال الوطني المتعلق بالنزاع ومسببات انفجاره بصورة دموية لا يزال قائماً. ولم يلمس الفلسطينيون التزاماً لأسس وقواعد الديموقراطية وعدم اللجوء للسلاح في حل الخلافات. ولم يتلق الناس جواباً شافياً يعالج جذر الأزمة، ولا أحد يضمن عدم تجدد الاشتباكات، خصوصاً ان شارون وأجهزته جاهزون للنفخ على جمر الخلاف الكامن تحت الرماد. الى ذلك، وفي سياق تصحيح العلاقات الوطنية قبل فوات الأوان، لا بد من معالجة الأزمة الساخنة المتعلقة بالتعامل ميدانياً مع عملية"الانسحاب". هناك من يرى الخطوة فرصة ثمينة للانتقام واذلال جيش الاحتلال والاشتباك معه اثناء انسحابه وايقاع خسائر كبيرة في صفوفه كما حصل في جنوبلبنان. يقابله رأي آخر يرفض هذا المنطق التبسيطي في التعامل مع حدث استراتيجي. صحيح ان منظر انسحاب الجيش الاسرائيلي وقوات العميل لحد من جنوبلبنان الهروب تحت وابل نيران"حزب الله"والمقاومة اللبنانية، بعث نشوة في نفوس الشعوب العربية، خصوصاً اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والمصريين الذين عانوا الأمرين من الاحتلال الاسرائيلي. ولا جدال ايضاً في ان خروج اسرائيل من قطاع غزة سابقة مهمة في مسيرة الصراع لها ما بعدها، ورؤية"الخروج"الاسرائيلي يتكرر في غزة يبعث نشوة اكبر في نفوس الفلسطينيين في الداخل والخارج، ويزيد في الأمل في التحرر من الاستعمار وسقوط الجدار وزوال الاستيطان. لكن التدقيق الهادئ في الموقف يبين تبايناً جوهرياً بين ظروف"الانسحاب"من جنوبلبنان والانسحاب المتوقع من قطاع غزة. واذا كانت الخطوتان تندرجان تحت بند ترتيبات اسرائيلية أحادية الجانب، فالصحيح ايضاً ان هذا التشابه لا يلغي التباين الجوهري في مسائل تتعلق بالجغرافيا فقط، وعدم وجود الاستيطان في جنوبلبنان، والاختلاف في سلوك حزب العمل بزعامة باراك عن سلوك حزب"ليكود"بزعامة شارون... الخ بل الأهم من ذلك كله هو ان خروج اسرائيل من جنوبلبنان تم خارج أي حوار، وبعيداً عن عملية السلام، ولم يكن لأي طرف ثالث دور مباشر، وكانت الادارة الاميركية خارج الموضوع، ولم يكن اللبنانيون معنيين بتشجيع الادارة الاميركية على الضغط على اسرائيل. وبجانب ذلك، هناك مسائل جوهرية تبين خصوصيات وضع الجبهة الفلسطينية وتفرض على انصار الاشتباك اثناء"الانسحاب"أخذها في الاعتبار. منها ان"الانسحاب"المبهج من قطاع غزة يحرر جزءا من الشعب من الاستعمار البغيض، لكنه ليس نهاية الصراع ولا ينهي احتلال الضفة ولم يحرر القدس، ولا يحل قضية اللاجئين. والقيمة المعنوية لصورة انسحاب اسرائيل تحت النار لا تساوي الخسائر البشرية والمادية التي قد تلحق بالناس، والاصرار على الاشتباك خلال الانسحاب قد يتسبب في تأخير"الانسحاب"ويطيل أمده. ويوفر ذريعة لخنق القطاع وفصله عن الضفة، ويربك السلطة ويضعف امكان استثمار الخطوة وتحويلها الى سابقة في مسيرة حل النزاع. وفي كل الحالات ليس من حق أحد التسبب في تعطيل توجهات السلطة، وحرمان رئيسها المنتخب محمود عباس حقه في استكمال تنفيذ برنامجه الذي حاز على أساسه ثقة الناس. وهو يؤمن ان طريق الحل السياسي هو الاسلم وأقل كلفة وواجبه يفرض بذل الجهد لتحويل"خطة الانفصال"الى خطوة على طريق تنفيذ"خريطة الطريق"الدولية وتفعيل دور اللجنة الرباعية. لا جدال في حق"حماس"التطلع الى تسلم السلطة، لكنها ترتكب خطأ استراتيجياً مدمراً اذا فكرت في تحقيق هذا الهدف بالقوة وخارج صناديق الاقتراع، وواصلت استعراضات القوة، وكررت الاشتباكات المسلحة مع أجهزة السلطة. من حقها ومعها القوى الفلسطينية مطالبة"ابو مازن"وقيادة"فتح"والمجلس التشريعي تنفيذ ما تم التوافق عليه في القاهرة في شأن الانتخابات المحلية والتشريعية، لكن لا يحق لأحد فرض نفسه سلطة بديلة أو سلطة موازية ومزاحمة السلطة في السيطرة على الاراضي والمنشآت التي يخليها الاحتلال والتحرك لملء الفراغ الذي يخلفه"الانسحاب". فهذه مهمات منوطة بالسلطة وحدها ولا أحد سواها. وأي سلوك فصائلي مخالف لهذه البديهة يؤدي الى زج قطاع غزة في فوضى عارمة تمناها شارون. وآمل ان تتقبل قيادة"حماس"نصيحة وطنية من شقين: الأول وضع المصالح الوطنية فوق الاعتبارات الحزبية، والتحرر من الغرور وعدم حرق المراحل، وقراءة حركة الرياح الدولية في هذه المرحلة بدقة، والتحلي بنفس طويل في تحقيق الاهداف الوطنية والحزبية، والتريث وعدم التسرع في الحركة نحو"قصر الرئاسة"، واعتماد الانتخابات طريقاً وحيداً للوصول الى السلطة ورفض كل طريق آخر. والشق الثاني من النصيحة هو نبذ الافكار"الطالبانية"، نسبة لحركة"طالبان"، المسيئة للاسلام والمعادية للحضارة والتقدم والتطور التي ظهرت في السلوك، وتطهير الصفوف من"الطالبانيين"الذين يعتبرون مثلاً اقامة مهرجان فني ضرباً من الانحلال الخلقي! كاتب فلسطيني.