بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية, وعى القيّمون على الشأن العام ضرورة إنشاء مركز ثقافي فني فاعل في رام الله, يكون متميّزاً من جهة موقعه, وعلى مستوى النشاطات التي يقدمها وسياسة البرمجة. هكذا أبصر النور"مركز خليل السكاكيني الثقافي", عندما اقتنت الوزارة بتمويل ياباني بيتاً قديماً في رام الله, على الطراز المعماري التقليدي السائد في أوائل القرن العشرين في فلسطين ولبنان، وباشرت بترميمه. وأطلق على المركز اسم شخصية تربوية ووطنية فلسطينية بارزة, من النصف الأول للقرن الماضي. افتتح المركز في أيار مايو 1996, وتحول العام 1998 إلى مؤسسة أهلية, بعد أن تسلّمت دفته فنانة ومثقّفة ناشطة في مجال العمل الابداعي. هذه المديرة التي عينت في آب أغسطس 1996 هي عادلة العايدي. وبعد قرابة عقد من العمل الدؤوب, والمواجهة على اكثر من جبهة, وانجازات عدة حملت اسم"مركز السكاكيني"الى العالم العربي، قررت العايدي في شباط فبراير الماضي, أن تترك موقعها لآخرين, كي تتفرّغ لدراساتها العليا. عادلة العايدي جزائرية متزوجة من فلسطيني, تحمل درجة الماجستير في الدراسات العربية والعلاقات الدولية من جامعة جورج تاون في واشنطن. وهي تتذكّر بداية المغامرة:"عيّنت لإدارة المركز لخبرتي الإدارية السابقة, ولاهتماماتي الفنية والثقافية, خصوصاً من خلال تعلمي الرسم ضمن مجموعة الفنانة الرائدة فخر النسا زيد. واكتشفت أن المشكلة الأساسية التي تحول دون انطلاقة حقيقية للمركز, هي مشكلة نقص الموارد المالية. وبعد موافقة وزارة الثقافة على تحويل المركز إلى مؤسسة أهلية, حصلنا على الدعم المادي الذي سمح بتحقيق الإستقلالية, من جانب الفنانة الفلسطينية سهى شومان وزوجها المصرفي الراحل خالد شومان مؤسس"دارة الفنون"في الأردن, إضافة إلى رجلي الأعمال الفلسطينيين صبيح المصري وسمير عويضة". وتشير العايدي إلى أهمية هذه السابقة, كما تفتخر بأنها نجحت في تحويل"السكاكيني"مركزاً ثقافياً ذا مستوى احترافي رفيع, يشمل كل مجالات الثقافة والابداع:"أسسنا فضاء ثقافياً له رؤيا دقيقة وملتزمة, من دون أن يكون حكراً على أحد ويعمل على تنمية العديد من الفنون, لمحاولة الإجابة عن العديد من التساؤلات الثقافية الفلسطينية حول الهوية, وعلاقة الإبداع بالواقع وبالسياسة والمعاصرة". كما تفتخر العايدي بأجواء الديموقراطية, والشفافية, واللامركزية التي سادت المركز منذ تأسيسه". وركزت العايدي برامج المركز حول ثلاثة محاور: الفن التشكيلي, الفن للجميع, وتعميق الهوية الفلسطينية. تقول عن هذا الخيار:"كان المنطلق من وراء التركيز على مجال الفنون المرئية, اهتماماتي الشخصية طبعاً, وقناعتي بضرورة دعم هذه الفنون المهمشة في ثقافتنا العربية التي تسيطر عليها الكلمة المكتوبة والخطابة, والتشجيع على ممارسة فنية معاصرة, استبطانية وفكرية. وفي مجال الفن التشكيلي كان"السكاكيني"نظم معارض شهريّة مجملها لفنانين يخوضون تجربة العرض للمرّة الأولى، وورشات لاكتشاف المواهب". وترى أنها نجحت من خلال هذه المبادرات في تمكين جيل جديد من الفنانين الفلسطينيين المحليين في البروز, لأول مرة منذ السبعينات. وقد استضاف المركز شخصيات عالمية مثل الممثل ريشارد غير والممثلة كاثلين تورنر, ووفد كتاب نوبل الذي جاء في زيارة تضامنية إلى فلسطين في آذار مارس 2002. وتتوقف العايدي عند الغياب الملموس للمثقفين العرب, باستثناء الروائية المصرية أهداف سويف التي"كان لندوتها في المركز وخاصة لزياراتها إلى فلسطين أثر في فك العزلة الثقافية العربية لفلسطين, إضافة إلى بعض الفنانين العرب الذين كسروا هذه العزلة واهدوا أعمالهم الى المجموعة الدائمة للمركز, مثل الفنان الجزائري رشيد القريشي والمصورة السعودية ريم الفيصل والرسام السوري الألماني مروان قصاب باشي". وتقول العايدي ان همها كان منذ بدأ عملها في المركز,"توسيع حيز الثقافة في الفضاء والخطاب العام الفلسطيني, لذا كان لا بد من التفكير بآليات للعودة إلى النشاطات الفنية, مع عدم إغفال خصوصية الانتفاضة, وتأثيرها الكبير على نوعية ما سنقدمه من برامج". ومن أهم مشاريع المركز في ذلك الوقت معرض"مئة شهيد - مئة حياة"الذي نظمته وصاغت مفهومه العايدي بحيث يتماشى مع الهم الأساسي لها في ابتداع برامج حول الهوية الثقافية, تحترم فيها كرامة الانسان الفلسطيني, وإنسانيته وذاته, وتجربته. وتم إشراك الأحياء في عملية التفكير حول آثار الانتفاضة على التكوين الفلسطيني, من خلال إعداد أربع جداريات تضم مطرزات لعدد من قريبات الشهداء. واهتم السكاكيني بسرد الرواية الفلسطينية للنكبة, من خلال توثيق وشهادات مصوّرة للذين عايشوها, وتأسيس أول موقع الكتروني للنكبة, اضافة الى معارض وعروض أفلام, وندوات. وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى, اقتحم الجيش الاسرائيلي"السكاكيني"وخربه وسرقه في نيسان ابريل 2002. وتردّ العايدي على تهم النخبويّة التي وجّهت الى"السكاكيني":"كانت نشاطاتنا ولا تزال مفتوحة للجميع, وفي الغالب تقدم بشكل مجاني, أو بصورة رمزية, ويعلن عنها في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة وإذا كان الجمهور نخبوياً فهذا ليس ذنبنا. وهذه الحالة عاينتها في مراكز ودور عرض عربيّة عدة, لأن الطبقة الوسطى أو المتعلمة التي ترتاد التظاهرات الثقافية في العالم, أقلية في فلسطين والوطن العربي". وتضيف أن بعض الفعاليات التي تمس الناس جذبت جمهوراً واسعاً, مثل معرض الشهداء والحفلة التضامنية مع مارسيل خليفة, أو الأمسيات الشعرية لمحمود درويش. وتذكر أن"السكاكيني"عمل على استهداف فئات متعلمة , انما مهمشة اقتصادياً, وفئات اجتماعية بعينها كالأطفال:"ذهبنا بالحدث نفسه إلى كليات مجتمع ومدارس ومخيمات, ودور تأهيل الشباب والأطفال, في منطقة رام الله وكذلك القدس, ونابلس قبل اندلاع الانتفاضة, وبيرزيت وغزة وبيت لحم. وكنا نلمس حالة من التعطش الثقافي الفريد تجاه تلقي المنتوج الثقافي, أو ممارسته, حتى من خلال الإقبال على عروض لأفلام وثائقية جادة, ونقاشات الكتب". وتؤكّد العايدي أخيراً أن مهمّة"السكاكيني","تنويرية, مبنية على التعبير عن الذات والتجدد والتعددية. وتؤكّد على ضرورة التجديد في إدارة مركز خليل السكاكيني:"ليس المهم الاستمرار أو التغيير في طريقة العمل... المهم هو البناء على الخبرات السابقة, وما حققه المركز من قفزات في السنوات التسع الماضية, وخدمة الثقافة والمثقفين الفلسطينيين. ما يهمني حقيقة, هو استمرار الجانب المؤسسي في السكاكيني, وفقاً للأسس المالية, والإدارية, والقانونية, بما يضمن الشفافية, ويبعدنا عن الفئوية والشللية.