في ساعة متأخرة من الليل كان الصبي المعوّق عقلياً يحمل أمتعته ويتسكع وحيداً في شارع بيروتي, حين وقفت بجانبه سيارة وراح كل من فيها يمازحه ثم صرخ الركاب بصوت واحد:"هيه يلا... سوريّة طلعي برا"... فأخذ هو يردد كلامهم, بلهجته السورية. ومضى في الأزقة بحثاً عن مأوى جديد بعد أن صار ليله مسرحاً لتعليقات المارة وأبناء المنطقة الذين يعرفونه جيداً, وصار النوم مستحيلا بالنسبة إليه. والنوم بالنسبة إليه يكون في العراء, تحت أحد جسور العاصمة, حيث كان يتقاسم"المسكن"مع بعض مواطنيه ممن كان يعملون في لبنان, وهربوا في الأيّام الأخيرة, لئلا يكونوا"فشة خلق"بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. هكذا بين ليلة وضحاها اختفى من لبنان عشرات العمال السوريين هرباً من الانتقام الذي يعقب كلّ عمليّة اغتيال في لبنان. أخافتهم الأخبار التي تحدثت عن عمليات اعتداء على عمال سوريين بعد الجريمة التي ذهب ضحيّتها الرئيس الحريري ومرافقوه. رحل كثير من العمّال قبل أن يتم تأكيد تلك الاشاعات. لكن المتجول في مناطق محيطة بالعاصمة اللبنانية تلفته تلك البيوت - الأشبه بالأكواخ - وقد فرغت من ساكنيها لتشرع أبوابها لكل من يريد أن يتعرف إلى بؤس هؤلاء: بيوت فارغة إلا من القليل القليل من الأثاث, والمجرّدة من أبسط أساسيات العيش. في محلة الحدث إحدى ضواحي بيروت كان أبو عامر يبدو زعيماً, يتحدث بصوت عال ويحلل الأوضاع, هو ناطور في بناية كبيرة يتمتع ب"امتيازات معنوية"مقارنة بالنواطير الآخرين. فهو لبناني الجنسية والانتماء, فيما هم سوريون. لكن أبا عامر بات شبه وحيد. لم يعد له زملاء في الحي"كلهم رحلوا, كلهم سوريون, خافوا من الوضع المتأزم, خافوا من أن يتحولوا إلى كبش فداء". ويلفت الى أنهم كانوا في الأيام الأخيرة, يجولون مجموعات خشية من وقوع أي اعتداء ضدهم. وقال أيضاً إن قنبلة يدوية رميت قبل يومين على مسكن لعمال سوريين قرب مستشفى سانت تيريز, وإن مناشير وجدت في الحي تدعو السوريين إلى إخلاء المنطقة قبل منتصف الليل. وفي تلك المنطقة لا يوجد جنود بل عمال فقط. كيف رحلوا؟ الروايات كثيرة وإفادات الشهود متنوعة, ولكل سؤال عشرات الإجابات. نسمع مثلاً من جار لمجموعة من العمال أنه رآهم يحزمون الأمتعة ليلاً ويفرون مشياً كيلومترات عدة قبل أن يجدوا باصاً خاصاً ينتظرهم, ويرد جار آخر أنهم خرجوا في مجموعة واحدة في وضح النهار وأيديهم خالية الاّ من أكياس قليلة, وثالث يلفت الى أنهم كانوا هنا نهاراً واختفوا فجأة والكل يسأل عن مصيرهم. آلاف عبروا الحدود في غضون أيام قليلة جداً, هؤلاء كانوا لسنوات محور جدل حاد في لبنان, تناول أسباب وجودهم في البلاد, وحقهم في العمل فيه, وكيفية دخولهم إليه. لكن العمال لم يهتموا بهذا النقاش, لم يكترثوا للأصوات التي ادعت بأنهم السبب الرئيس في البطالة التي يعاني منها شباب لبنانيون. لم يعترفوا بالأخطاء التي طبعت العلاقات اللبنانية - السورية. كان شغلهم الشاغل محاربة الفقر المدقع الذي حاصرهم في بلادهم, ولم يترك لهم مجالاً سوى الفرار. لم يركبوا البحر ومخاطره كما فعل المغاربة, لم يقدموا طلبات اللجوء السياسي أو يتحايلوا على قوانين الهجرة الأوروبية كما فعل فقراء اللبنانيين. استفادوا من تسهيلات قدمتها لهم السلطة اللبنانية لعلهم من خلالها يعيلون أطفالهم. استفادوا من الطلب عليهم, من قبل أصحاب عمل لبنانيين جشعين برعوا في استغلالهم ولم يحترموا أبسط حقوقهم. لم يسأل المتباكون على ارتفاع نسبة العاطلين من العمل في لبنان لماذا فضّل كثير من المتمولين اللبنانيين اليد العاملة السوريّة؟... لأنّها قليلة الكلفة طبعاً, ولا يترتّب على صاحب العمل أيّة مسؤوليات أو التقديمات الاجتماعية التي ينص عليها القانون. وفضل العمال السوريون البؤس في لبنان على بؤس أكبر في بلادهم, وبمجيئهم الى لبنان خلّصوا النظام في بلادهم من عبء اجتماعي واقتصادي مرهق. فإلى أين تراهم ذهبوا اليوم؟ وكيف سيستعيض عنهم الاقتصاد اللبناني بعد أن غض المسؤولون عنه الطرف وعن ضرورة انتاج آليات بديلة تفتح الأبواب لليد العاملة اللبنانية؟ منذ اغتيال الحريري تغيرت حال البلاد, وتوقف العمل في معظم ورش البناء وفي المزارع والحقول والمعامل. السبب الأساسي هي الحال السياسية غير المستقرة طبعاً. لكن السبب الثاني الذي لا يقلّ عنه أهميّة أيضاً هو غياب العمّال السوريين الذي أخلوا الساحة ل"الخيار الوطني", فإذا بالبلد ورشة مؤجلة إلى أجل غير مسمّى.