ليسوا طارئين على البلاد. ازدادت أعداد السوريين الوافدين إلى لبنان أوائل التسعينات. بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، ووفرت الطفرة العمرانية، آنذاك، ما يجوز وصفه بفرص العمل. وكانت تلك الفرص سبباً رئيساً في استقطاب العمال السوريين، وهكذا عرفتهم البلاد. نهضت المدينة على أيدي هؤلاء. هم الذين كنسوا غبارها. وما زالوا. لن تتكلف عناء العثور عليهم. لا يخلو منهم مكان. فبإمكان العابر تحت «جسر المطار» في الضاحية الجنوبية مثلاً، أن يرى المشهد بوضوح تام. هناك، يصطف خطٌ طويلٌ من العمال، عشرون عاملاً تقريباً، يفترشون الرصيف بلا تذمر. لا يزاحمهم أحدٌ على رؤية صباح المدينة، تكسر خطواتهم هدوء الفجر الذي يغسل وجهها. السابعة صباحاً، هي ساعة الذروة. يصرفون ساعاتهم بانتظار أي عملٍ يتقاضون أتعابه الزهيدة. لا يغادرون أماكنهم حتى ساعات متأخرة، إلى أن يحل الظلام. فقد تأتي الفرصة السانحة. ستأتي حتماً. سيأتي أحد ما على غفلة. سيتحلق حوله الجميع ليعرضوا خدماتهم. والأخيرة تتشارك في كونها تتطلب جهداً بدنياً عالياً، ستجد هناك العتالين، عمال البناء وآخرون لا يرفضون عملاً يطيقونه. يبخسون في الأجر ما استطاعوا كي لا يخطئهم الحظ مرةً أخرى، فيعودوا إلى جلوسهم الطويل الذي اعتادوه. يرضيهم القليل، وهذا ما يعطيهم الأفضلية على نظرائهم من اللبنانيين. عشرون ألف ليرة لبنانية، هذا ما يتقاضاه، يومياً، العامل في ورشة بناء، ويبدو هذا مقبولاً جداً في نظر أرباب العمل. ولكن من نظرة إنسانية صرفة، لا يمكن أن يكون ذلك عادلاً أبداً. وهنا تجدر الإشارة إلى الظلم اللاحق بهؤلاء العمال، ظلم لا يتخلى عنهم حتى في الموت. والعبارة الأخيرة ليست ترفاً في الكتابة. إذ أنه لا إحصاءات واضحة عن ضحايا العمل من السوريين في لبنان، يموتون على غفلة من العالم. «ضحايا عمل»، هذا هو العزاء الوحيد لذويهم خلف الحدود. لا شيء آخر. فائض من البؤس يطبع حياتهم، لكنهم صابرون، هذا هو الخيار الوحيد المتاح، الصبر والانتظار الطويل. ويكون الأخير قاسياً تحت شمس تبدو آثارها واضحةً فوق جلودهم صيفاً، وفي برد تحفظ عظامهم وخزه بأمانة شتاءً. لا يملكون أحلاماً ضخمة، فقد تتقلص الأخيرة أحياناً حتى تصبح بمقدار رغيف يتقاسمون جفافه بطيب خاطر. حالهم حال فقراء المدينة، الراضين بفقرهم، تتكدس الغبطة في قعر أرواحهم حين ينالون خبزهم اليومي مقابل قهر أقل. يفرحهم تشابه أيامهم على هذا النحو. أيام كثيرة بأمنية مكررة. هذا ما عبروا الحدود لأجله. جاءت الأحداث ولم تذهب بعد. وصار للسوريين في الضاحية، كما في كل مكان، حصة من العنصرية اللبنانية الفاقعة. ويتحملون قيء العنصريين على مساحة البلاد، شأنهم شأن الفيليبينيين والإثيوبيين وكل عامل «أجنبي» فيها. إنه مرض لبناني قديم، لا يريد المصابون به أن يتنازلوا عن شيء منه، يحتفظون به تاماً لإبرازه ضد كل ما هو مختلف. ونتحدث هنا عن اللبنانيين عامةً، وليس عن أهل الضاحية حصراً. المفارقة، أن الأخيرة كانت ملاذاً آمناً للعمال السوريين عَقِب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط ال2005، وبقيت كذلك حتى بدء «الثورة السورية» عام 2011. شكلت هذه السنة تحولاً نوعياً في نظرة أهل الضاحية إلى السوريين. صار السوري مرحب به على قدر انسجامه مع الرأي السياسي السائد في الضاحية الجنوبية. وتزامناً مع اتساع رقعة الأحداث، ضيقت «الثورة» الخناق على اللاجئين وسائر السوريين. واتسعت الهوة بينهم خصوصاً بعد حادثة أعزاز الشهيرة، وسطوع نجم «أبو ابراهيم»، وفي مواجهته «الحاجة حياة». يبدو هذا كلاماً لطيفاً، ضرباً من ضروب المزاح. بينما الواقع أن الحقد طفح في النفوس، ووصل التضييق على السوريين إلى سقفه الأعلى، فطاول أرزاقهم وأمنهم. «مقفل إلى حين عودة المخطوفين»، تكتب الصبية عبارتها على أبواب المحال المقفلة. الجموع التي تحيطها، تمدها بهدوء معززاً بالثقة. جميعهم يحملون القهر ذاته. سرعان ما يتلاشى هدوء الصبية بعد إتمامها المهمة. تبكي بحرقة. تصرخ بحنق زائد ضد الجميع. تقول إنها تدرك تماماً أن «هؤلاء لا ذنب لهم، لكنها تريد أن تذيقهم كأس مرارتها». فليبكوا هم أيضاً. إلى يسارها، لا يبكي مالك الدكان، يكتفي بتنكيس رأسه، في حركة تدل إلى الكثير. ومثله فعل الباقون. قست الضاحية عليهم، لا سجال في ذلك، لكنها قسوة عابرة، قفزت من جيوب أهلها بعد أن تبرأت الدولة من قضاياهم. هذا ما فهمه السوريون جيداً. بقوا في الضاحية التي لم تتمادَ في غضبها أكثر من ذلك. في الصيف الماضي، نزلت صواريخٌ على الشياح، تبعتها انفجاراتٌ في مختلف مناطق الضاحية. وجد السوريون أنفسهم في مواجهة الغضب المفهوم. باتوا جميعهم مشاريع «إرهابيين». أنت «إرهابي» حتى يثبت العكس، تلك هي المعادلة. طبعاً، لم ترفع الضاحية اللافتات ضد «الغرباء»، تمنعهم من التجول في فترات معينة من اليوم، لكنها، أي الضاحية، لم تخفِ ارتيابها منهم. ظل الارتياب سيد الموقف إلى أن بدأت نتائج التحقيق في التفجيرات الإرهابية التي طاولت المنطقة بالظهور. كانت الحقيقة قاسيةً كعادتها. لم يكونوا سوريين، هؤلاء الذين نثروا حقدهم في الضاحية. هم لبنانيون في معظمهم. ليسوا سوريين إذن، هم أبناء البلد. منذ ال2005 والعمال السوريون يدفعون ثمن العلاقات المتوترة بين البلدين «الشقيقين». هربوا من الموت الذي حل في بلادهم، إلى مصير لم يكن أقل سوءاً هنا. موتٌ بطيء يتسلل إليهم. موتٌ لا يستطيعون دفعه عن صدورهم، يُسقط الوهم الكبير الذي أكل رؤوسنا لأعوامٍ خلت. وهمٌ موسيقي، من سمفونية بالية: «شعبٌ واحدٌ في دولتين».