يريد ه. غرينواي، المعلق بالنيويورك تايمز أن يقنعنا أو يقنع الأميركيين؟ أن مشكلات فرنسا وبقية الاوروبيين مع العرب والأفارقة هي مشكلات ثقافية وليست عرقية أو عنصرية. والواقع أن قليلين منا اتهموا الفرنسيين أو الاوروبيين بذلك في السنوات الاخيرة. وقد حاولنا جميعاً أن نستوعب ذلك ضمن قضايا الاندماج ومشكلاته. لكن كان عليّ أن اعترف بأنني استطعت التمييز كثيراً بين القضايا العنصرية والقضايا الثقافية. فمسألة اللون هي أيضاً مسألة ثقافية بالمعنى المتعارف عليه للثقافة في الأنتروبولوجيا والعلوم الاجتماعية الاخرى. ومع ذلك فدعونا نتأمل المسألة في نطاقها الواقعي، وقد عايشت بعضاً من ذلك أثناء دراستي في ألمانيا في السبعينات، بينما عايش غرينواي ذلك في فرنسا في التسعينات. في ألمانيا ما كانت الجالية التركية هي أكبر الجاليات، بل كانت تأتي ثالثة بعد الايطاليين واليوغوسلافيين. وكان الألمان يضيقون ذرعاً باليوغوسلاف وبالأتراك، مع بعض الانزعاج من الطليان. لكن على مشارف القرن الواحد والعشرين بدا أن الألمان ما عادوا مهمومين بغير الجالية التركية. والوضع في فرنسا مختلف، فقد ظل المغاربة أو الشمال افريقيون من الجزائر والمغرب على الخصوص هم الأكثر صموداً ومشاكل منذ السبعينات وحتى اليوم. وظلت المشكلات متبادلة، بمعنى أن المغاربة منزعجون من الفرنسيين، والفرنسيين منزعجون من المغاربة. وما تحدث أحد فعلاً عن اللون المختلف علة لاختلافهم أو استعصائهم على الاندماج، بل كانت هناك دائماً أحاديث عن مشكلات العمل والسلوك وعادات المجتمع وأعرافه. ومنذ اواسط التسعينات برز موضوع جديد ما لبث أن غطّى على كل الموضوعات الاخرى: الإحياء الاسلامي في اوساط المهاجرين هؤلاء، والذي يتجلى في سلوكهم وعاداتهم وميلهم للخصوصية والتمايز... والعنف. وما نوقش الموضوع في بريطانيا، رغم وجود مليوني مسلم أو اكثر حتى السنوات الاخيرة، لكن هذه المرة كما في الولاياتالمتحدة: العنف... والارهاب. وهناك من لاحظ أن مسألة الاندماج ما طُرحت في بريطانيا لأن المسلمين هناك في اكثرهم من أصول هندية، وهم لا يميليون الى العصبوية مثل العرب والافارقة. ثم تحدث آخرون عن اختلاف طبائع المجتمعات الاوروبية ازاء الهجرة والمهاجرين أو الاختلاف الثقافي بالمعنى الواسع. فطارق رمضان المثقف المُسالم الذي أراد اصطناع إسلام أوروبي أثار قلقاً عميقاً لدى ذوي الثقافة الفرنسية، بينما لم يُثر طارق علي الراديكالي العنيد أي قلق في المجتمع البريطاني. وهناك قصة أخرى أو نموذج آخر لاختلاف المجتمعات الاوروبية هو الموقف من مسألة لباس المرأة المسلمة أو الفتيات المسلمات من ذوات الاصول المغاربية والتركية والهندية في كل من فرنساوألمانياوبريطانيا والدول الاسكندينافية. فالبريطانيون والاسكندينافيون ما شعروا بقلق تجاه الحجاب لدى الفتيات، بينما قلق الفرنسيون كثيراً، والألمان بعدهم والى حد أقل. ومما له دلالته أن يكون الفرنسيون العلمانيون؟! والكاردينال راتسينغر الألماني، الذي صار البابا بندكيتوس السادس عشر هم الذين أثاروا مسالة الاصول المسيحية لأوروبا في نقاشات الدستور الاوروبي الموحّد، وكان ذلك كله موجهاً ضد الاتراك، في حين وقف البريطانيون مع الدخول التركي للاتحاد الاوروبي، دونما تعرض للطابع المسيحي للقارة القديمة. وفي الوسع المضي قدماً في استنتاج التمايزات بين المسلمين المهاجرين من جهة، والاوروبيين المستقبلين من جهة ثانية. لكن علينا أن نعترف أن المشهد داخله التوحد الى حد بعيد بعد احداث سبتمبر في الولاياتالمتحدة، ثم انتشار وقائع"العنف"الاسلامي في بلدان اوروبية مختلفة في السنوات الاخيرة. هناك خُوافٌ غربي شامل تجاه الاسلام، ولا فرق في ذلك بين الولاياتالمتحدةوبريطانيا واسبانيا والمانيا وهولندا. وهذا القلق المنتشر من الاسلام، والذي يخترق الشارع الاوروبي الآن، وجد صدى له في اوساط المثقفين من رجالات الاعلام، ومن دارسي الشرق الاوسط المتخصصين. وقد سبق ان مثّلت له في بعض تعليقاتي بمحاضرتين سمعتهما لمختصين فرنسيين هما جيل كيبيل، وفرانسوا بورغا. جيل كيبيل نسب العنف الاسلامي الى طبائع اصيلة في الدين الاسلامي دون تجاهل لآثار الهيمنة الاميركية، وفشل الدولة العربية والاسلامية. بينما رأى فرانسوا بورغا ان العنف الاسلامي علته الرئيسة الهيمنة الاميركية والغربية الفظيعة، دونما تجاهل للتجربة السياسية السلبية، وللنزوع الظهوري في الاحيائية الاسلامية. ولكل من كيبيل وبورغا اصول ثقافية واحدة أو متشابهة. فقد بدأ كل منهما يسارياً ليبرالياً، وتحول كيبيل تدريجياً في ما بين الثمانينات والتسعينات نحو اليمين، في حين ظل بورغا مشغولاً بالتحولات الجماهيرية لدى العرب والمسلمين باعتبارها ردود فعل مقاومة للهيمنة الغربية سواء أكانت تحت عناوين وطنية وقومية أو اسلامية. وما يقال عن بورغا وكيبيل يمكن قوله عن آلان غريش وروسيول ويان ريشار وآخرين عديدين. ولهذا التحول - الذي جعل من الليبراليين المتعاطفين معنا قلة بقيت مؤثرة على كل حال - سببان ظاهران: ممارسات العنف باسم الاسلام في العقدين الاخيرين، وشيوع ثقافة وممارسة الاستشهاد والهجمات الانتحارية في كل من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والعراق. ويمكن هنا طبعاً اضافة عدة عوامل مهمة لاستكمال المشهد أو فهمه، دون ان يعني ذلك التأثير الحقيقي في معالجته. فالمجتمعات الاوروبية مرت بتحولات عميقة ايضاً في الثمانينات والتسعينات. واليسار الاوروبي، الذي امتلك رؤية سلبية للثقافة الاسلامية والشرقية، هو في اصل مشروع الدولة الصهيونية في فلسطين. وكما خاف على نفسه، فقد خاف ايضاً على اسرائيل بعد فشل حلول النصف الاول من التسعينات، وتقدم اعتبارات الأمن لتصبح في الاهمية في درجة الهم الاقتصادي. ثم ان العالم كان قد تآلف مع الأمراض ووقائع الحرب الباردة، وواجهه انهيار الاتحاد السوفياتي بواقع جديد وهش سيطرت فيه الهيمنة الاميركية وتهددت الفوضى العالم. وفاجأه الثوار المسلمون بعنف اعمى أشد هولاً بكثير من ارهاب العدميين في القرن التاسع عشر واليساريين الراديكاليين في ستينات وسبعينات القرن العشرين. وكما قال ارنست شميت في كتابه:"مصادر الخوف في أوروبا القروسطية"ان مصادر الخوف تلك كانت ثلاثة: الطاعون والشيطان والترك، فإن مخاوف الغرب المعاصر صارت: الاضطراب الاقتصادي، والاضطراب الأمني - ويبدو الاسلام الآن في وعي الاوروبيين أهم مصادر الاضطراب الامني، وتهديد المدنيين. وقد فكّر كثيرون بامكان عزل العرب على الاقل. من بين المسلمين باعتبارهم المنبت الاصلي للارهاب. لكن المشكلة أن"اخلاقية"أوروبا والولاياتالمتحدة تقومان الى حد بعيد على صون اليهود ودولتهم، وهي قائمة في الشرق الاوسط، فلا بد من الاهتمام بالشرق الاوسط، من اجل اسرائيل على الاقل. لكن هناك ايضاً البترول، الذي هو الغذاء الاساسي للمدينة الحاضرة. ولذلك فإن التدخل الاميركي في العالمين العربي والاسلامي، ليس مشروعاً لادارة بوش وحدها في الحقيقة، بل هو استراتيجية غربية، صارت الآن عالمية. لا بد من الهيمنة على المنطقة: لضبط الارهاب، ولتأمين الطاقة الضرورية للحياة والتقدم، ولابقاء العالم موحداً في ظل عولمة السوق. والذي أراه انه من هذا المنطلق يمكن البدء بمعالجة المشكلة أو اعادة بناء صورتنا ومصالحنا والمصالح تابعة للصورة مع العالم. فالبترول هو أساس استراتيجية الاعتماد المتبادل. ومشكلتنا مع اسرائيل جزء من المشكلة اليهودية في العالم، والغرب مضطر لمساعدتنا في معالجتها حتى لا تظل مستعصية ومهددة له ولنا. ولا تستطيع الجيوش الاميركية البقاء عندنا الى الابد، فلا بد من بناء أنظمة جديدة للأمن والأمان، ومن هنا كان مشروع الشرق الاوسط الأوسع. ونحن لا بد أن نتقدم ليشعر الغرب بالأمان وكذلك الدول الآسيوية العظمى مثل الصين واليابان والهند مع قيام انظمة مشاركة في المنطقة. وهذه العمليات المتلازمة والتي نمرّ في سياقها بمخاض طويل، كفيلة بتهدئة الثوران الاسلامي، والبدء بالتفكير في فتح صفحة جديدة. فالوجه الحقيقي للمشكلات - وبخلاف ما يزعمه هنتنغتون وغرلينواي وكثيرون - سياسي واقتصادي واستراتيجي، وليس ثقافياً.