منح المركز الروسي للتعاون العلمي والثقافي الدولي في بيروت الفنان التشكيلي اللبناني نزار ضاهر وساماً فخرياً لمساهمته في تعزيز الصداقة بين البلدين، عقب دخول بعض لوحاته في مقتنيات متحف الارميتاج. ونظم له معرضاً استيعادياً لأعماله، يعود أقدمها إلى مرحلة الدراسة في الاتحاد السوفياتي ما بين العامين 1976 وپ1987، فضلاً عن محطات متنوعة من مراحل انتاجه الأخير. من"تلال"بوشكين كانت بداية رحلة نزار ضاهر مع الفن. وهو الموقع الذي كان يقصده حين كان طالباً في أكاديمية الفنون في سانت بطرسبورغ، بحثاً عن ينابيع الجمال الموحي بالشعر. كان يحمل جعبة التصوير التي تضم أقلاماً وأوراقاً والواناً مائية وزيتية ليرسم حيث يحط به الرحال في أحضان الطبيعة. ومن انطباعاته الأولى خرجت الى الحياة لوحات صغيرة تستعيد مناخات حديقة الشاعر بوشكين وبحيرة أحلامه. انتقالاً إلى مناظر الاشجار الباسقة والغيوم البيض الكبيرة الغافية على التلال الخضر المترامية الأطراف. ومن هذه المرحلة ثمة رسم بالأسود والأبيض لكنيسة لينينغراد ورسوم اخرى لساحاتها وضواحيها. لوحات هي بمثابة صحوة أولى للعين على الصباحات الضبابية وألوان النور الوردي ودفء الأخضر وتوهج ألوان الأرض. جولات من الرسم والتسكع والتخطيط السريع اللاهث لالتقاط الصور الهاربة لمعالم المدينة. ومع حلول المساء حين يعود الرسام إلى غرفته المتواضعة، ليسجل آخر شعاعات النور وهي تتسلل من نافذته لتغمر طاولته وسراجه الوحيد في لوحة من نوع الطبيعة الصامتة. هذه البدايات الانطباعية التي تحتفل بحياة الأشجار والمياه وموجودات الطبيعة، المنبثقة من يوميات العيش في مدينة الشعر والأدب والفن، شكلت انطلاقة الفنان في البحث عن الطبيعة كمكان شعري مأهول باللون والنور. يعكس المعرض تحولات مسار المنظر الطبيعي من النقل المباشر المغموس بشغف طالب الفن وحماسته في التقاط ملامح الواقع، إلى مرحلة التفتيش عن كيفية التعاطي مع المساحة والموضوع بمنطق اختباري. فجاء الإيحاء بدلاً من الوصف في بانوراما الطبيعة التي احتفظت من ذكريات البدايات بخط الأفق الذي يفصل بين الحقلين الأرضي والسماوي. ومن الأحجام الصغيرة انتقل نزار ضاهر إلى العمل على مساحات كبيرة تعتمد في تحقيق الرؤية التجريدية للمنظر على المادة اللونية وتقنيات التبصيم والتبقيع بالألوان الناشفة، فضلاً عن اللصق بالجيسو والرمل والغراء. كل ذلك بغية تحقيق لوحة تنغمس في ثرى الأرض وتتنسم أديمها وتقلد ملمسها في خشونة تشبه عجائن التربة وتكاوين التلال بتموجاتها الخطوطية والكتلوية. فاللوحة مقمشة من احاسيس وانفعالات واستحضارات ذهنية لمناخات الطبيعة في ربيعها وخريفها، في ساحلها وجبلها، كما يتبدى في التعقيبات اللونية: طبقة إثر طبقة، غير انها معرضة دوماً للتعديلات، بالمحو والقشط والإذابة، بحثاً عن الايهام والغموض. وإن كانت اللمسات الناشفة هي بصمة خاصة في تجريديات الفنان، فإن الشفافية هي مبتغاه، يفتش عنها بالكثافة الظاهرة وبالتجاور اللوني الفج والساطع الذي يتجلى بالألوان النارية والوردية والبنفسجية، إلى درجة لا يمكن قراءة اللوحة بمعالمها الشمولية إلا من بعيد. فالرؤية البانورامية التي تحلم بالآفاق الشاسعة، تجسد المعنى الشعري العميق والدفين الذي يظهر في قوة العلاقات اللونية بديلاً عن شاعريتها الانطباعية السابقة التي وسمت بدايات الرسام. ويظل الحوار قائماً بين الغيوم التي تحتل الفضاء الكبير، والسهل المنبسط للطبيعة البكر، وهو كل ما تبقى من رواسب الحنين إلى النزهات الأولى وذكريات الإقامة. وهي ذكريات في حال من الغيبوبة والإغماء لكأنها بين الواقع والحلم معلقة ما بين أثلام الأرض وانوار السماء.