لكي يتصدى أحد لترجمة عمل لجيمس جويس فإنه في حاجة إلى ما هو أكثر من المعرفة الجيدة باللغة الإنكليزية. إنه في حاجة إلى التمتع بثقافة راقية وواسعة ومتنوعة في الوقت نفسه، والإلمام بلغات أخرى بما في ذلك لغات قديمة مثل اللاتينية والإغريقية. ولكن عليه قبل هذا وذاك معرفة دواخل الحياة الإيرلندية، فالإيرلنديون من أعرق الشعوب الأوروبية وأكثرهم خصوصية وتميزاً. وهذا ما لم يتوافر في اعتقادي لشخص آخر مثلما توافر للدكتور طه محمود طه، فهو حصل على درجة الدكتوراه من إيرلندا، وخلال سنوات دراسته عاش في دبلن التي كانت موضوع كتابات جويس، وعرف شوارعها وأزقتها ومرافقها وكنائسها وحاناتها ونهر "الليفي" الذي يخترقها. وتعرف جيداً إلى الشخصية الإيرلندية بملامحها المميزة، وعرف الكثير عن تاريخها وعن تراثها الديني والتاريخي والشعبي في صورة خاصة، بما في ذلك أغاني الأطفال وأغاني المتسكعين وأناشيد المرتلين في الكنائس والطريقة التي يحور بها الإيرلنديون الأسماء ويستخدمون بعض المفردات لتشير إلى أماكن أو شخصيات أو مهن أو مناصب محددة إجلالاً أو احتراماً أو سخرية. في العام 1962 بدأ طه في ترجمة بعض أجزاء رواية "يوليسيز" عمل جويس الرئيسي ونشر فصلين منها هما "كاليبسو" و"الصخور الضالة" في مجلة الكاتب المصرية في العام 1964. وبعد عشرين عاماً من العمل المضني أكمل طه ترجمته ليوليسيز وأصدر الطبعة الأولى والكاملة للرواية الفذة بالعربية عن "المركز العربي للبحث والنشر" في 500 نسخة فقط، وصادف صدور الرواية عام 1982 مرور مئة عام على مولد جيمس جويس. حاول الدكتور طه وضع ترجمة مبتكرة تليق بالعمل الأدبي الكبير يجمع فيها بين روح الرواية العظيمة ونصها، فترجم كل مفردة إنكليزية بمفردة عربية وكل كلمة إنكليزية قديمة بأقرب كلمة مقابلة لها بالعربية القديمة بادئاً بعنوان الرواية الذي أصبح بالعربية "عوليس". وهو حاول ترجمة كل كلمة عامية بعامية مقابلة مثل استخدامه "عدن البلد" مقابل Edenville، وكل مثل إنكليزي بمثل عربي وأغنية للأطفال بالإنكليزية بأغنية أطفال عربية، كما ترجم الأشعار العامية الإنكليزية إلى أشعار عامية عربية ما أمكنه ذلك، مثل "أنا الفتى العترة/ لابس طاقية الإخفة". وبالطبع فقد كانت العامية التي اختارها لتكون مرادفة للعامية الإنكليزية هي العامية المصرية. كما حاول طه نحت كلمات عربية مقابل الكلمات التي نحتها جويس بالانكليزية، فاستخدم كلمات مثل "تقفطن" و"تمأزر"، أو أنه كتبها بطريقة خاصة لإعطائها مزيداً من الإيحاء كما في "يمضغيمضغ" "بعيونكهنوتية" و"جفونبرونزية". وبعد صدور الترجمة بأعوام أصدر الدكتور طه قاموساً خاصاً بمفردات الرواية. واختار طه أن يبقي على الجمل المكتوبة بلغة غير إنكليزية في لغاتها الأصلية فقد استخدم جويس في روايته هذه عبارات بالفرنسية واللاتينية والإيطالية وغيرها بما في ذلك بعض المفردات العربية. بسبب جهده الكبير في نقل تراث جويس إلى العربية استحق الدكتور طه عضوية "جمعية جيمس جويس"، وهي جمعية تضم المهتمين بأدب جويس والمنشغلين بأعماله، وتصدر مجلة فصلية تتناول ما جد من اكتشافات في أعماله الثرية. وتنظم الجمعية لقاء يضم أعضاء الجمعية مرة كل عامين في السادس عشر من حزيران يونيو من كل عام وهو اليوم الذي اختار جويس أن يكتب أحداثه في روايته الخالدة فأحداثها تجرى طوال يوم 16 حزيران 1904، أي قبل مئة عام من الآن. ومن المؤكد أن جمعية جيمس جويس ستشارك في هذه الاحتفالات ولكن أعضاء الجمعية سوف يفتقدون وجود عضو عربي بينهم فقد شغر هذا المقعد بعد رحيل الدكتور طه من دون وجود من يخلفه.