أدب الرحلة العربي عرف عصوراً ذهبية ثم تراجع. يرغب القارىء اليوم في قراءة نصوص عن مدن بعيدة. بعد رحلات نشرها ملحق "آفاق" الى العراق وأفغانستان وتركيا واليابان ودول أخرى هنا رحلة الى إرلندا: لكي نعرف مساحة مدينة دبلن، علينا أن نبدأ القصة هكذا: في نهار مشمس وبينما كنت أتجول في مركز المدينة، رأيت فتاة جميلة تخرج من بوابة "ترينتي كوليج". لم أرها في الحقيقة، إنما لمحت أكثر، شعرها الأسود الطويل، يلمع تحت الشمس، الفتاة مرت بي مسرعة، لتختفي بلمح البصر في زحمة الشوارع المكتظة بالبشر والحياة، كما هي الحال دائماً في الأيام المشمسة الاستثنائية في مدن الشمال. هكذا ذهبت الفتاة، وظلت صورتها أو بالأحرى صورة شعرها الأسود الطويل عالقة في الذاكرة. لكن بعد ساعتين التقيت بالفتاة نفسها في زقاق صغير، في مكان آخر تماماً من المدينة. هذه المرة رأيتها تتجه صوبي، وتقول: "هيللو"، تبتسم وتضع في يدي إعلاناً صغيراً للاشتراك في إحدى المجلات التي حملت اسم: "الدبلنيون". وقبل أن أقول لها شيئاً ما، كلمة لطيفة مثلاً، تحركت بسرعة لتختفي عني مرة ثانية في زحمة الناس. لكن هذه المرة ليس للأبد، لأنني عرفت حينها، أنني مع قليل من الحظ سأراها مرة أخرى. بالفعل رأيتها من جديد وأكثر من مرة: في شارع غراتون، في ستيفان بارك، وأخيراً تحت تمثال جيمس جويس في كونولي ستريت، حيث جلست على مصطبة، مستغرقة في قراءة مجموعة قصصية لفرانك أوكونور، وفي يدها قطعة سندويتش صغير تأكله بشهية. تلك هي دبلن. على رغم مساحتها الصغيرة قياساً بعواصم أوروبية أخرى، إلا أن المدينة تحيا، تموج، تبعث حرارة خاصة بها. أنها تلفت الانتباه، تثير الفضول وتدهش المرء، وخصوصاً أنه لا يتوقع أن تحدث مثل هذه الأشياء عند حافة قارة أوروبا. فحتى وقت قريب كانت إرلندا تعتبر بالنسبة الى معظم الأوروبيين مجرد بلاد تمرح فيها الحيوانات، تأتي منها الزبدة، واللبن الرائب، وأن دبلن هي مجرد قلبها النابض، عاصمة لبلد فلاحي. اليوم تسعى الدولة الجديدة لتغيير صورتها في أوروبا، تقدم نفسها بفخر على أغلفة مجلات المدينة. نجوم غناء وممثلون، رجال أعمال ومعماريون، يُحتفى بهم باعتبارهم الآباء المؤسسين لإرلندا الحديثة. صورة المدينة ذاتها تحاول تغيير نفسها، عندما تستحوذ على شوارعها موديلات بدلات رمادية أنيقة، بماركات أرماني وإيف سانت لوران، وفساتين نسائية بماركة شانيل وكوجي. وبنوع من التفاؤل، الذي لا يعرض نفسه في المحال الغالية والمطاعم الأنيقة - كل ذلك يمكن العثور عليه في أماكن أخرى، وربما أفضل - إنما في تعامل الارلنديين الخاص مع الآخرين، في تصرفهم الواثق الذي لا يخلو من مرح، في استقلاليتهم الواضحة، وبالضحكة أو الابتسامة التي تصاحب تصرفاتهم، وخلاصة الأمر: في هذه العفوية، التي لا يمكن رؤيتها في مدن الشمال الأوروبي، والتي من السهولة رؤيتها هنا، حتى على وجوه رجال الأعمال الذين يزدحمون بعد نهاية الدوام في حانات مركز المدينة، يشربون جعتهم المفضلة، بالرباط المتحلل قليلاً. ربما لا يحمل كل ذلك شيئاً خاصاً بإرلندا، وربما يرى المرء ذلك أيضاً في لندن، على الأقل. في الحقيقة لا تمنح دبلن نفسها بسهولة للغريب، لكي يميزها عن مدن إنكليزية أخرى. بنايات من القرميد الأحمر، السيارات تسير بطريقة معاكسة، المقود عند اليسار، سمك مقلي مع البطاطا المقلية، الباص ذو الطابقين، سترات التويد الرجالية. نعم ربما كل ذلك في شكل ما إنكليزي، ولكي يعرف المرء الفوارق، عليه إما أن يكون ارلندياً، أو وتلك هي المفارقة الخاصة بدبلن: عليه أن يكون كاتباً ورحالة؟ وإلا من الصعب عليه تمييز هذه المدينة عن بقية مدن العالم، ناهيك عن المدن الإنكليزية الأخرى. دبلن تميز نفسها في مركز المدينة: في السوق. ربما لا يثير للوهلة الأولى منظر أولئك البشر الذين استرخوا عند جدران البيوت، الذين جلسوا هناك، يبيعون بضاعتهم، لأن منظرهم مألوف، وموجود في كل العالم. لكن بينما يعرض الباعة في سان فرانسيسكو أعواد البخور، وفي سايغون السمك المجفف، وفي بوخارست أوراق الاعتماد المصرفية المفلسة، وفي مكسيكو سيتي قناني الشراب المعبأة بالأفاعي السامة، وفي مراكش السجاد، وفي فاس الجلود المدبوغة، وفي ماكوندو دهن دموع الدلافين، يبيع المرء في دبلن الكتب، ولكن مهلاً، الكتب تباع في بغداد أيضاً، في شارع المتنبي، ولإزالة كل سوء فهم يجب توضيح الأمر: في دبلن يبيع المرء بالذات الكتب التي كتبها نفسه. كما يفعل السيد بات إنغولدسبي. الرجل الملتحي، الأشيب صاحب الكتفين العريضين، الذي لبس سترة التويد، بينما مسك في يده الأخرى قطعة من البلاستيك تحسباً للمطر، والذي وقف في ويستمورلاند ستريت، ليس بعيداً من بنك إرلندا. السيد إنغولدسبي يرفض رفضاً قاطعاً السماح ببيع كتبه في مكتبة لبيع الكتب، ولا يريد التوجه إلى دار نشر أخرى غير دار نشره الخاصة به. وعلى دور النشر أن تسأله إذا أبدت اهتماماً بما يكتبه. هكذا يجب أن تسير الأمور، الكاتب يحترم نفسه، وبات إنغولدسبي يعرف ذلك، لأنه ارلندي. وعندما يسأله عابر السبيل، عن كتبه وبالذات عن موضوع الكتاب الذي بين يديه، الذي حمل عنوان أخوات الفضيحة، يجيب: "أيها السيد، لماذا تسألني؟ كل شيء ستقرأه في الكتاب، اشترِ الكتاب ببساطة Sir، حينها ستعرف عما يدور الكتاب"، بات إنغولدسبي يلقي جمله تلك بصورة مهذبة، بلهجة خالية من الترويج. أنه لا يحترف الترويج، أنه كاتب، مثل الكثير من إخوانه بالمواطنة من الارلنديين. هناك أمران تتناقلهما الألسن في أيامنا هذه، ويشكلان العلامتين الفارقتين لإرلندا: أن هذه البلاد خضراء، وأن هناك الكثير من الكتّاب يعيشون فيها. الأمران صحيحان، وخصوصاً الأمر الثاني، لأن هناك عدداً من الكتّاب الذين يأتون من الغرب، بسبب الهروب من الضرائب" يُقال، ان الفنانين والكتّاب ليسوا ملزمين في إرلندا دفع ضريبة الدخل. والنكتة المتداولة في إرلندا تقول: البلاد التي لا يدفع الفنانون فيها ضريبة الدخل، يجب أن يزيد عدد الفنانين فيها على عدد السياسيين الذين يقررون ذلك. ومن يستغرب ذلك، عليه زيارة سوهين. فسوهين ليس مكاناً مجرداً، ليس الجزء التاريخي من دبلن فقط، إنما هو أيضاً الحاضر وبالضبط عاصمة العالم الأدبية. هنا يشتري المرء الكتب، والتسوق في دبلن، يعني، زيارة مكتبات بيع الكتب. لذلك من النادر أن تجد السياح العرب في مدينة دبلن، كما تجدهم في لندن، والأمر ليس غريباً لأن آخر ما تفكر به السياحة العربية هو شراء الكتب، وإذا فعلت ذلك، فستكتفي بشراء كتب المنجمين وكتب الطبخ! بالفعل، من يسير في Eason_s عند أوكونيل ستريت، شمالاً من ريفير ليفي، سيرى بشراً قادمين من مختلف بلدان العالم، باستثناء البلدان الناطقة بالعربية، مثلما يعني أنه سيكون في أكبر مكتبة لبيع الكتب في العالم. وبعد جولة صغيرة فقط، عبر المدينة، يصعب على المرء عقد مقارنة بين المكتبات. فمثلاً، صحيح أن المكتبة التي تحمل اسم Hodges Figgis الواقعة في داوسون ستريت ليست أكبر من المكتبة السابقة، إلا أنها أكثر قرباً وتقع مباشرة مقابل Westones، حيث يستطيع المرء شراء الكتب في خمسة طوابق تتكون منها الكتبة. وبين أسماء الكتّاب الكبار، يجد المرء النجوم الصغيرة أيضاً، كل الكتب هنا، حتى الكتب الأصلية الصغيرة، التي تخصصت في مجالات مواضيع معينة: مثلاً: Murder Ink، حيث تباع الكتب الخاصة بالمجرمين والمواضيع الغريبة. تطابقاً مع الجو الأدبي للمدينة، ليس من الغريب أن تملك المدينة متحفاً أدبياً خاصاً بها: "متحف الكتّاب". المتحف يقع في الجزء الشمالي من المدينة. وفي الطابقين اللذين يحتوي عليهما المتحف يُكرم قبل كل شيء أولئك الكتّاب الذين حملوا بنجاح بين أصابعهم ريشة الكتابة، من غير المهم أنهم كانوا في إرلندا أو عاشوا في مكان ما، في الخارج - طالما أنهم ظلوا ارلنديين -. هذه ال"في مكان ما" هي مهمة، لأن، كلما كان الكاتب مشهوراً، كلما كان غادر إرلندا في شكل مبكر. جيمس جويس مثلاً، الإرلندي المقدس الثاني الحقيقي بعد سانت باتريك، غادر البلاد، عندما كان عمره 23 عاماً، لئلا يعود إليها أبداً. على رغم ذلك كتب عن دبلن. أما اليوم الذي طاف فيه ليوبولد بلوم عبر حانات المدينة، في رواية "يوليسيس"، فيعتبر في أيامنا هذه عيداً قومياً يحتفل به الإرلنديون. في يوم 16 حزيران يونيو، من كل عام، يطوف آلاف الإرلنديين، عبر الطريق ذاتها، عبر الحانات ذاتها، التي خطها جيمس جويس ليوبولد بلوم، لكي يسير عليها. والإرلنديون، ربما يفعلون ذلك، حباً لعشقهم للربط بين الكتابة والشرب. أو على الأقل للربط بين القراءة والشرب. صحيح أن الكتاب القومي الإرلندي للإرلنديين أصلاً هو: The Book of Kells المكتوب في القرن الثامن عشر، إلا أن الكتب القليلة التي كتبها "المنبوذ" جيمس جويس، راحت مع السنوات تأخذ مكانه. لهذا ليس من الغريب أن سكان مدينة دبلن الذين يقارب عددهم ال400 ألف نسمة، يحاولون جاهدين التماثل مع مواطنهم الكوزموبوليتي، الذي عاش الفاقة ومات فقيراً في مدينة تريستا الإيطالية، إن لم يكن من الناحية الأدبية، فعلى الأقل من الناحية الأخلاقية. في كل واحد منهم شيء من جويس. وكل واحد منهم يريد التماثل مع إحدى شخصيات جويس. سكان إرلندا، هم في النهاية الدبلنيون الذين كتب عنهم جويس بوجد، أنهم الأموات الأحياء، الخالدين. ليس من الغريب إذاً، أن يشعر سكان دبلن، وخصوصاً سكان الأحياء القديمة، بأنهم مركز العالم. لأن العالم، عالم الأدب، بدأ في بداية القرن العشرين، هنا، في دبلن!