ترددت في الآونة الأخيرة مفردات وتعابير واصطلاحات متجددة، وتشعبت أوجه الحوار حول الوسائل الفضلى والمثلى لتحويلها من كلمات جامدة الى أفعال حية مثل إصلاح البيت، وتعديل القوانين والمناهج التعليمية والحوار الداخلي والحوار مع الآخر وتغيير الأنظمة والمشاركة السياسية والديموقراطية وحقوق الانسان، وأخيراً لا آخراً تعميم الديموقراطية في"الشرق الأوسط الكبير". هذه الأفكار والأحاديث تدخل حيوية وديناميكية على أوطاننا ومجتمعاتنا إذا توافرت النيات الصادقة وتضافرت الجهود من أجل تحقيق الإصلاح المنشود وحل المشكلات العالقة وإزالة أسباب الشكوى ومعالجة مواطن العلل، لكن الحذر واجب في بت الأمور، لأن أية خطوة ناقصة أو غير مدروسة قد تؤدي الى عكس مراميها وتتسبب بتعميق الضرر. لا بد من قوانين لكل انطلاقة، ومن ضوابط وشروط لكل تغيير، ومن جدول أعمال ومواعيد وآلية تنفيذ لكل حوار، حتى يتحقق النجاح المطلوب ضمن خطوط الثوابت الآتية: أولاً - أي تغيير أو إصلاح يجب أن ينبع من الداخل، أي من صميم أي مجتمع أو وطن، كل بحسب خصوصياته وأوضاعه وعاداته وقيمه، مع مبدأ ثابت يشمل جميع الدول العربية والإسلامية وهو عدم الخروج عن مبادئ الشريعة السمحة أو فرض مبادئ غريبة على مجتمعاتها ومواطنيها. فالأنظمة والمبادئ لا تستورد مثل الجينز والكوكا كولا وغيرهما من السلع. وما ينجح في الولاياتالمتحدة لا بد من أن يفشل في بلد عربي، وما قد يثير الإعجاب في السويد يثير النقمة في السعودية أو دول الخليج أو حتى أي دولة عربية أو إسلامية. فقد عانينا كثيراً خلال القرن الماضي من أخطاء استيراد المبادئ والأنظمة المعلبة والقوانين الجاهزة من الشرق أو من الغرب، فلا الرأسمالية كانت مفصلة على الجسد العربي، ولا الشيوعية تماشت مع مزاجاته، ولا الاشتراكية جلبت له الصحة والقوة والسعادة، ولا الديموقراطية الغربية نجحت في اختبار التجريب في أية دولة عربية، لأن شروطها ومتطلباتها لم تكن متوافرة ومن بينها الوعي السياسي والانتماء الوطني الى الوطن لا الى الفرد أو القبيلة، وعدم وجود أحزاب سياسية قوية وفاعلة وقادرة على خوض الانتخابات بنزاهة وتسلم الحكم باقتدار بعيداً من الخصومات والمزاجات الشخصية. ومن بين الشروط غير المتوافرة حالياً عدم وجود برنامج عملي واضح متفق عليه يتناول كل مرافق الحياة العامة والسياستين الداخلية والخارجية. ثانياً - اتفاق الآراء في جميع الحوارات على أن أي تغيير أو تعديل أو إصلاح لا يمكن أن يتحقق في ليلة وضحاها، بل لا بد من التأني والصبر، كما دعا الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي، واعتماد المرحلية في عملية التنفيذ ضمن برنامج واضح وجدول زمني يحدد الأولويات والنقاط التي لا خلاف عليها للبدء بتنفيذها ثم الانطلاق الى النقاط والقضايا الجدلية. ولا بد في هذا المجال من تعميم الوعي وتوسيع نطاق الحوار من المدرسة الى المعمل، ومن الجامعة الى الجامع وصولاً الى البيت عرين الشباب الذين نعلق عليهم آمالاً كباراً. ثالثاً - أي إصلاح أو تعديل أو تعبير لا يستند الى مبدأ العدالة وسيادة القانون ومساواة الجميع أمامه لا يمكن أن يحقق أي نجاح، بل سيؤدي الى فشل أكيد وإحباط لدى الناس ونتائج عكسية ضارة. فالعدل هو أساس الملك والله عزّ وجلّ أوضح لنا معالم طريق الخير والعدل بقوله:"وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل". وهذه هي سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين التي وجب علينا السير على هداها كإعلاميين وغير إعلاميين لأن الله عز وجل كفل لنا حرية التعبير ودعانا الى الجهر بالحق:"ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون". وتاريخنا حافل بالعبر والأمثلة الحية وبينها تلك الصرخة التي أطلقها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"والقدوة التي تركها لنا عندما قال:"أصابت امرأة وأخطأ عمر"خلال حوار مفتوح لم يعرف العالم له مثيلاً. وعندما ترددت أصداء العبارة المأثورة عبر التاريخ:"حكمت فعدلت فأمنت فنمت"... وأختتم هذه النقطة بالإشارة الى حكمة يصح أن نأخذ منها العبرة والدرس والقدوة الحسنة وردت في رسالة الخليفة عمر بن عبدالعزيز الى والي حمص الذي طلب منه أن يسمح ببناء سور للمدينة يقيها هجمات العدو وأجابه فيها بقوله:"حصِّن مدينتك بالعدل". والخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعطانا المثال الرائع عندما خاطب المسلمين قائلاً:"أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني"..."أطيعوني ما أطعت الله فيكم... فإذا عصيته لا طاعة لي عليكم"..."إلا أن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له... وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه"... رابعاً - إن أي تغيير أو إصلاح يجب أن يتم بالتوافق والحوار والتفهم والتفاهم والاعتدال والوسطية وليس بالتطرف والعنف والارتعاب والوسائل غير المشروعة أو بإثارة الفتن والنزاعات واستغلال العصبيات العرقية أو المذهبية أو الطائفية. وقد قاسينا الأمرَّين خلال العهود الماضية ودفعنا ثمناً غالياً من أمننا ودمنا وشعوبنا واقتصادنا وثرواتنا واستقرارنا ومستقبلنا بسبب الحروب والمؤامرات والثورات المزعومة والانقلابات العسكرية وأعمال العنف والإرهاب والتكفير والتطرف والتخوين والاعتقالات والاغتيالات والتعذيب. خامساً - إن أي اصلاح أو تعديل لا يمكن أن يحقق أهدافه إذا لم يتزامن مع دفع عجلة التنمية الاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية وحل المشكلات التي أصابت المجتمعات العربية مثل البطالة والفساد والتخلف وضعف مناهج التعليم وعدم مواكبة روح العصر والقوانين المعرقلة للنمو والبادرة الفردية وحرية العمل والاستثمار والقضاء على الأمية من جذورها. ولا بد من التركيز على دور الشباب في المشاركة في إيجاد الحلول والحوار، لأنهم عماد المستقبل وحملة شعلة الأمل، علماً أنهم يشكلون ما نسبته 56 في المئة من عدد سكان العالم العربي. ولا بد من توفير فرص العمل لهم وبناء شخصيتهم على أساس التوفيق بين معادلتي العلم والإيمان. سادساً - لا يمكن تحقيق أي إصلاح أو تغيير بمعزل عن المحيط العربي، وهذا يتطلب إصلاح البيت العربي في وقت واحد مع إصلاح البيت الداخلي، بإيجاد حلول للأزمات المستعصية مثل قضية فلسطين وحرية العراق وحل المشكلات والخلافات بين الدول وتحقيق التضامن العربي والتكامل الاقتصادي، وهذا ما يجب أن تبتّه القمة العربية المقبلة. سابعاً - لا بد من الانفتاح على الآخر، أي العالم الخارجي بحكمة ومرونة وتعقل بخاصة بعد الأحداث الجسام التي وقعت خلال السنوات الماضية. هذا الانفتاح يمكن أن يأخذ شكل التدرج بحيث تتسارع خطواته مع الدول والمجتمعات القريبة منا والمتفهمة لأوضاعنا لتصل الى الدول أو الأطراف التي تتحدث عن الصراع أو تعمل على تأجيج نار الفتن وتشويه صورة العرب والإسلام. فنحن أصحاب حضارة عريقة تمتد الى آلاف السنين ولا بد من أن يعرف"الآخر"الحقيقة ويتعرف اليها منذ أول شرعة لحقوق الانسان التي تضمنتها شريعة حمورابي الذي قال عن نفسه انه"الأمير الشهير الخائف من الرب حمورابي، لأوطد العدل، وأزيل الشر والفساد من بين البشر، وأحمي الضعيف من الوقوع في يدي القوي وظلمه". وجاء الإسلام ليحمل رسالة الحضارة الانسانية ويكرس الشريعة السمحة التي تدعو الى المحبة والسلام والمساواة والعدل ولتؤسس عليها كل مبادئ حقوق الانسان في العالم والتي تلخص في قوله عزّ وجلّ:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". كما كرست الشريعة السمحة مبدأ الحوار:"قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله". وأيضاً في قوله عزّ وجلّ:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". ودور العرب والمسلمين في الحوار يتكرس بالبعد عن الغلو واعتماد الوسطية:"وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً". هذه هي رسالة الحق وطريق الخروج من النفق المظلم والسبيل الأمثل للرد على مزاعم صراع الحضارات... وما دمنا نعيش في عصر العولمة والأسواق المفتوحة ومنظمة التجارة الحرة والانترنت وثورة الاتصالات والتكنولوجيا والبث الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية، لا بد من الحوار مع الآخر والانفتاح الايجابي حتى تتوافر كل عوامل النجاح للاصلاح الداخلي. وأختتم مع غاندي وحكمته في هذا المجال:"لا أريد أن يكون بيتي مستوراً من كل الجهات. ولا أريد أن تكون نوافذي مغلقة. أريد أن تهب على بيتي ثقافات كل الأمم بكل ما أمكن من حرية. لكني أنكر على أي منها أن تقتلعني من جذوري"! * كاتب وصحافي عربي.