"مسرح الحركة" او "المسرح الجديد" او حتى "مسرح ما بعد الحداثة"، يدعونا الى التفكير بتأثير المسرح الشرقي في الهند والصين وآسيا عموماً، في صلب العروض المسرحية الجديدة التي تستقطب الكثير من المسرحيين الغربيين الجدد. هذا المسرح الذي يعتمد على المزاوجة بين المسرح الشرقي والمسرح الغربي، التكنولوجيا والشكل البصري والديكور المسرح الغربي والحركة والحكاية والاروسية والايماء والاكروبات احياناً المسرح الشرقي وبالتحديد المسرح الياباني - البوتو -، هذا المسرح لا يعتمد على النص كقيمة جوهرية في العرض المسرحي بمقدار اعتماده على الفعل الحركي وقدرة أو طاقة جسد الممثل، وما تضيفه القدرات التكنولوجية في تضخيم أو تعميق هذا الفعل وحتى تكراره احياناً من أجل اضاءة فكرة العرض ككل. في مسرحية "اين الهناك؟" وهي التجربة المشتركة الثانية للشاعر شعلان شريف والفنان صالح حسن فارس على صعيد كتابة النص، بعد مسرحية "أجمل الاحياء"، لا يتابع المشاهد نصاً مسرحياً بالمعنى التقليدي للنص بوحداته الثلاث: البداية، العقدة، النهاية، بمقدار ما يستمع الى قصيدة او فكرة قصيدة قابلة لأن تكون نصاً نثرياً يبني عليه الممثل عدداً من الحركات والايماءات المتتابعة في شكل تصاعدي او دائري تشكل في النهاية حكاية مسرحية بعيداً من صرامة أو تحديدات أرسطو الكلاسيكية. هذا ما يتعلق بالنص أو اللانص على صعيد البناء الذي اعتمد اقل ما يمكن من المنطوق او المسموع. اما الفكرة فهي في غاية البساطة وتتلخص بمحاولة شخص الوصول الى القمر، غير ان مدلول هذه الحكاية او الفكرة يتعمق ويتخذ أبعاداً أخرى حينما تتكرر جملة في منتصف العرض كل شيء هنا محزن، كل شيء هناك محزن لتنقلب هذه الفكرة البسيطة الى سؤال بنيوي في البحث عن الهوية ومفهوم المكان والزمان والضياع وتحولات الحياة ومجرياتها في المكان القلق، وبالتالي فكرة الانتماء بين الهنا والهناك والخيارات القاسية وما يستتبع ذلك من اسئلة. على صعيد الاخراج، وفي مثل هذه الاعمال من الأفضل ان يقال على صعيد العرض، فمفهوم الاخراج تعرض أيضاً الى زعزعة وخلخلة منهجية، وباتت سلطة المخرج تنزاح قليلاً مفسحة المجال للتقنيات والتكنولوجيا كخيارات غير شخصية. في مثل هذه الاعمال... يتوزع العرض بين مخرجين - كما أعتقد - هما المخرج السينوغرافي الفنان اليوغوسلافي سالي بيكوفيتش والدراماتورج الفنان حازم كمال الدين. قام المخرج السينوغرافي بالعمل فقط على جهاز "بيمر" جهاز يشبه الفيديو مع بروجكتور قوي من دون ان يستعين بالانارة، وقدم من خلاله اشكالاً بصرية مدهشة هي انعكاسات لحركة الممثل صالح حسن فارس البارعة. واستطاع ان يعكس الايماءات والتفاصيل الصغيرة على شاشة السينوغرافيا، خالقاً فضاء من الاشكال البصرية التي تستتبع الفعل الحركي وتغذيه تارة بالالوان التي تشير الى الحاضر، وطوراً باللونين الابيض والاسود حين يتعلق الامر بالماضي والفلاش باك. وكان عمله منفرداً بامتياز وذا دلالة كبيرة على قدرة التكنولوجيا الحديثة في خدمة الفن المسرحي من دون ان يسقط في شراك السينما وحيلها الكثيرة. أما حازم كمال الدين المخرج المعروف بإخلاصه الى غروتوفسكي ومسرح الجسد والحركة، فقد عمل مع الفنان صالح حسن فارس ممثل العرض واستطاع ان يزوده بالكثير من الافكار والتقنيات التي دفعته الى تقديم عمل ناجح وطموح. وكان في امكان الفنان فارس ان يستثمر الكثير من مفردات المسرح الشرقي في السخرية ولعبة الحرب، الصلاة، الغناء... ولكنه آثر الرقص فقط. كما انه لم يترك للمشاهد فرصة التقاط أنفاسه بين المشاهد، المختلفة، إذ تتالت المشاهد الواحد بعد الآخر، من دون فواصل زمنية ولو قصيرة جداً، للتمييز بين الهنا والهناك! وكان سبق للفنان صالح حسن فارس ان عمل مع المخرج العراقي المعروف صلاح القصب في "مسرح الصورة" عندما كان طالباً في اكاديمية الفنون الجميلة وظل منذ ذلك الوقت يعمل على مسرح الجسد ومسرح الحركة وقد قدم اعمالاً عدة في هولندا كان آخرها "ذاكرة قلب" وقدم في امستردام.