تكثفت في الآونة الأخيرة الزيارات التي درجت على القيام بها وفود شعبية عراقية الى العاصمة السورية. وبعد وفود الفعاليات التجارية والعشائرية خلال تشرين الثاني نوفمبر الماضي، استقبلت دمشق في الاسبوع الأخير من السنة المنقضية وفدين من المثقفين، الأول ضم 56 شخصاً، والثاني 80 شخصاً. وأحيطت زيارات هذه الوفود بحفاوة خاصة، وجرى التركيز عليها في وسائل الاعلام، ونظمت لها لقاءات مع مسؤولين على أعلى المستويات، مثل رئيس الدولة بشار الأسد ونائبه عبدالحليم خدام. وعلى رغم اهمية هذه المسألة فإنها مرت من دون تعليق، بل لم يصدر اي موقف من طرف الادارة الاميركية في العراق، أو مجلس الحكم الانتقالي. ما يهمني هنا إثارة مجموعة من النقاط التي يمكن ان تلقي الضوء على بعض جوانب هذه القضية. النقطة الأولى، أننا لم نعهد عند الرئيس السوري او نائبه عادة اللقاء مع وفود شعبية سورية، من أجل البحث في مستقبل هذا البلد الذي بات لا يقل خطورة عنه في العراق، على ضوء صدور "قانون محاسبة سورية" ورفض رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون كل مبادرات السلام العربية. وهنا يفيد التخصيص في ما يتعلق بالمثقفين السوريين، فلم يسبق لأركان الحكم ان استأنسوا برأي أحد من هذه الفئة، سواء في ما يتعلق بالجانب الثقافي أو السياسي. بل ان النظام اكتفى باتحاد كتّاب جرى تفريغه من الكتاب الحقيقيين، وتحول واحدة من مؤسسات الرقابة على الرأي وتفتيش النوايا. وحين راود الأمل مجموعة من المثقفين والسياسيين، بالعهد الجديد الذي بدأ مع وراثة الحكم بعد رحيل الأب، ضمن نطاق ما عرف ب"المنتديات"، خيب النظام كل التوقعات وأصر على الاحتفاظ بالجوانب السيئة من المرحلة السابقة، وما يزال بعض رموز هذه التجربة نزلاء السجن، مثل استاذ الاقتصاد عارف دليلة وعضو مجلس الشعب رياض سيف. ومن هنا مثار العجب في استقبال المثقفين العراقيين، الا اذا كان الأمر يكرر نفسه. فقد قام هذا النظام باحتضان خصوم النظام العراقي السابق، قبل ان يتصالح معه من اجل خط البترول. تكمن النقطة الثانية في ان الوفود العراقية التي تتقاطر على دمشق في الآونة الأخيرة ذات صبغة طائفية ومناطقية واحدة. فهي كلها آتية من المحيط السني في الغرب والموصل. ولا بد ان المسؤولين السوريين، الذين يقدمون هذه الوفود على أنها تمثل العراق، يدركون هذه الحقيقة جيداً ويعون مد عدم تطابقها مع الشعار الذي درجوا على رفعه: "وحدة العراق أرضاً وشعباً". وهناك سؤال يطرح نفسه، هو: اذا كان الهدف المقصود "وحدة العراق أرضاً وشعباًَ" فلماذا تتوجه هذه الوفود الى دمشق، من دون سائر العواصم الاخرى. هل تملك سورية وحدها المفتاح السري لهذا الباب، ام ان وراء الأكمة ما وراءها؟ والنقطة الثالثة في السياق، هي انه من خلال الخبرة بالسلوك السياسي الذي درج الحكم السوري على اتباعه، يصعب على الناس ان يصدقوا بأن هدف دمشق منزّه عن الأغراض، وانها ستتوقف عند حدود الدفاع عن "وحدة العراق ارضاً وشعباً" ولن تذهب أبعد لتوظيف هذه الزيارات من أجل مصالحها الخاصة. ان القياس على التجربتين الفلسطينية واللبنانية، يؤكد ان ما ترمي اليه السياسة السورية من احتضان بعض العراقيين في هذه المرحلة، هو الاحتفاظ بدور خاص في الأزمة العراقية. والمسألة واضحة ، وقد لا يطول الوقت حتى تبرهن الأحداث على صحة الفرضية التي وضعها سياسي سوري معارض، وهي ان ثلاثة ارباع أوراق رهان الحكم السوري في هذه المرحلة هي على المقاومة العراقية، والربع الآخر على فشل "خريطة الطريق". وهو رهان يسير في طريق مسدود ولا يعبر عن قراءة دقيقة للوقائع والمعطيات، بل يكاد يبرهن على ان من يقف خلف هذه السياسة، ما زال يكيل بمكاييل الماضي، الذي ارتقت فيه "الحرتقات" الى مصاف الاستراتيجية. والنقطة الرابعة، هي التكتم على اسماء هذا النفر الكبير من المثقفين والكتاب والصحافيين، ومع ان العدد قارب 150 شخصاً في الزيارتين، ورغم ان وسائل الإعلام السورية أفاضت في الحديث عن اللقاءات، ظلت الاسماء سرية. ويبدو ان التكتم يعود الى عدم وجود شخصيات ذات وزن، لذا تم الاكتفاء بالعموميات. وكان من المفيد ان يسمع المرء رأي هذه المجموعة، لا سيما وانها قريبة من التلفزيونات والصحافة العربية والاجنبية. لكن على ما يبدو، يشكل الالتزام بالإيقاع السوري سبباً اضافياً لهذا التكتم. الأمر الذي يجب ان يتعظ منه العراقيون الذين يجدون في طريق دمشق منفذاً الى العالم الخارجي. وفي الختام، لا يمكن ان تُفسر المداومة السورية الرسمية على هذا النوع من النشاط، بأنها فقط من باب "وصل ذوي القربى". فستأتي الساعة التي تعتبرها الادارة الاميركية تدخلاً في الشؤون الداخلية العراقية، ونوعاً من "الكيل بمكيالين"، مما سينعكس ضرراً، لا سيما وان "البيت السوري من زجاج".